مدرسة سيادة العقل على النص نشأت فى أواخر القرن التاسع عشر وظلت تمُدّ آثارها إلى يومنا هذا. وعمل الغزو الفكرى بكل وسيلة على أن يرسخ فى أذهان المسلمين أنه لكى يتقدم الشرق فلا بد له من إخضاع حقائق الإسلام الغيبية لعمل العقل فلا إيمان بغيب لم يدركه علم ولا تصديق بمعجزة لم يؤيدها اكتشاف أو اختراع. ولقد لجأ المستشرقون إلى حيلة انطلت على الكثيرين، فقالوا إن ديننا الحنيف لا يتماشى مع العقل، وهنا حصل رد الفعل من البعض فقالوا "الإسلام فى كل قضاياه متماشٍ مع العقل". وعمدوا بسرعة إلى القضايا التى تتصل بالغيب الذى يجب أن يقف عنده العقل ولا يقحم نفسه فيه. وحاولوا تأويله بما يتناسب مع ما ردَّده المستشرقون حتى يدفعوا التهمة التى روَّجها الأعداء.. وصدقها هؤلاء السُّذّج. والحق أن الإسلام كرَّم العقل وأعطاه دوره فى معالجة شئون الحياة وحلِّ معضلاتها، كما دعا إلى التفكير والتأمل الكريم، ثم حدَّد موقفه من النص: وهو التلقى ومحاولة الفهم وإدراك المدلول الذى يعطيه. وما لا يدركه اليوم من النص الثابت فسيدركه غدًا وبهذا تكون رؤيته للنص أسلم وأكرم. يحدثنا الأستاذ الشهيد سيد قطب عن السرِّ فى هذا الغرور فى تأليه العقل فيقول: "لقد أدركنا الغرور بالعقل حين رأيناه يبدع فى عالم المادة. ويأتى بما يشبه الخوارق، فتوهمنا أن العقل الذى أبدع الطائرة والصاروخ وحطَّم الذرة، واخترع القنبلة الهيدروجينية.. توهمنا أن هذا العقل جدير بأن نَكِل إليه كذلك وضع نظام الحياة البشرية وقواعد التصور والاعتقاد وأسس الأخلاق والسلوك، ناسين أنه حين يعمل فى عالم المادة، فإنما يعمل فى عالم يعرفه لأنه مجهَّز بإدراك قوانينه. أما حين يعمل فى عالم الإنسان، فهو يعمل فى متاهة واسعة بالقياس إليه فهو غير مجهَّز ابتداء لإدراك حقيقتها الهائلة الغامضة". ومن المقرر فى الإسلام أنه ليس فيه ما يرفضه العقل السليم أو يحكم باستحالته، وإن كان فيه ما يستغربه العقل. والخلط بين الأمرين خطير، والذى يؤخذ على المعجبين بالعقل من ضحايا الغزو الفكرى أنهم لا يفرِّقون بين المستحيل والمستغرب. فكثير من الأمور كنا نستغرب وقوعها، ثم تبين أنها ممكنة، وقبل عصرنا هذا كنا نستغرب أن يطير الإنسان إلى السماء، أو نسمع صوت المتكلم من أقصى بقاع الأرض، أو الوصول إلى القمر، وكان ساكن الريف يستغرب ويتعجب حين يسمع الراديو ويعتقد أن شيطانا يتكلم فيه، ودراسة التاريخ تدلنا على أن الكثير مما كان غامضا على العقل أصبح مفهوما وواضحا، وما كان مستغربا بالأمس أصبح اليوم أمرا عاديًّا. معجزة تحققت: ردَّ أصحاب المدرسة العقلية حديث البخارى الثابت الخاص "بشرب أبوال الإبل"، واستهجنوا حديث الذباب ووجهوا النقد إليه رغم ثبوته وصحته.. وكذبوا حديث -ما أسكر كثيره فقليله حرام- واعتبروه تزمتا وتضييقا لا مبرر له.. ثم ظهرت حقائق العلم وتجارب المعامل تكشف ما وراء هذه الأحاديث وغيرها من حِكَم أقرَّتها المؤتمرات العالمية فى كل أقطار الأرض. 1 - قالوا فى الحديث الذى رواه أنس رضى الله عنه -وهو قدوم نفر من مكة فأسلموا واجتووا المدينة- أى كرهوا الإقامة بها لمرضهم- "فأمرهم النبى صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها ففعلوا فصحوا..." رواه البخارى.. قالوا هذا حديث ينكره العقل ولا يتماشى مع المنطق السليم، ثم اكتشف من خلال التجارب المعملية وجود مادة هرمونية فى البول تسمى "يور غاسترون"، وأخرى تسمى "أنثلون" تنفعان فى علاج قرحة المعدة، وذكر الدكتور ميشال صليب أستاذ الأمراض الباطنية فى "عين شمس" فى كتابه "أمراض الجهاز الهضمى" أن شركة "بارك ديفز" الإنجليزية تمكنت من صنع علاج يسمى "كورتون" يحتوى على هذه الهرمونات "البولية". 2 - وقالوا فى الحديث الذى رواه جابر بن عبد الله رضى الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما أسكر كثيره فقليله حرام" رواه أبو داود وابن ماجه والترمذى وحسنه قالوا.. إن القليل الذى لا يُسكر فتحريمه يعتبر تزمتا لا داعى له. ثم أجرى العلماء فى أمريكا التجارب على القليل من الخمر فظهر الضرر على الأجنة وظهرت الحكمة.. جاءوا بعشرة أزواج من الأرانب سقيت تسع منها جرعات متفاوتة القدر من الخمر فظهر تأثير الخمر وضررها فى أجنتها جميعا حتى عند الزوجين اللذين لم يسقيا إلا جرعة واحدة فقط، أما الزوجان اللذان لم يسقيا شيئا من الخمر فلم يظهر فى أجنتها أى أثر لأى ضرر. وحديث "إذا وقع الذباب فى إناء أحدكم فليغسمه كله ثم يطرحه، فإن فى أحد جناحيه داء والآخر شفاء" رواه البخارى. وجهوا نقدا شديدا لهذا الحديث فقالوا: كيف يكون الذباب الذى هو مباءة الجراثيم فيه دواء؟ وكيف يجمع الله الداء والدواء فى شىء واحد؟. وبعد بحث دقيق وتجارب متعددة توصل العلماء إلى بعض السر فى هذا الحديث. لقد اكتشفوا أن فى الذباب مادة قاتلة للميكروب فبغمسه تكون هذه المادة سببا فى قتل ما يحمله من جراثيم. جاء فى مجلة التجارب الطبية الإنجليزية عدد 1307 الآتى: "لقد أُطعم الذباب من زرع ميكروبات بعض الأمراض، وبعد حين من الزمن ماتت تلك الجراثيم واختفى أثرها. وتكوَّن فى الذباب مادة سامة تسمى بكتر يوفاج التى يمكنها إبادة أنواع من الجراثيم المولدة للأمراض". وفى سنة 1947 عزل نوفيتش مواد مضادة للحيوية من مزرعة الفطريات الموجودة على جسم الذبابة.. ووجد أنها ذات مفعول قوى فى بعض الجراثيم مثل جراثيم التيفود والدوسنتاريا.. وبالبحث عن فائدة الفطريات لمقاومة الجراثيم التى تسبب أمراض الحميات التى يلزمها وقت قصير للحضانة.. وُجِد أن جراما واحدا من هذه المواد المضادة للحيوية يمكن أن يحفظ أكثر من (10000) لتر لبن من التلوث من الجراثيم المرضية المزمنة.. وهذا أكبر دليل على القوة الشديدة لمفعول هذا الدواء.. أما بخصوص تلوث الذباب بالجراثيم فمكانه على أطراف أرجل الذبابة أو فى برازها.. وهذا ثابت فى جميع المراجع (البكتيريولوجية)، ويستدل من هذا على أنه إذا وقعت ذبابة على الأكل فإنها تلمس الغذاء بأرجلها الحاملة للميكروب. أما الفطريات التى تفرز المواد المضادة التى تقتل الجراثيم فتوجد على بطن الذبابة ولا تنطلق مع سائل الخلية إلا بعد غمسها فى السائل. وبذلك حقَّق العلماء ببحوثهم تفسير الحديث النبوى الذى يؤكد الحقيقة التى أشار إليها الحديث، وهو أن فى أحد جناحيها دواء وفى الآخر شفاء، وهو المواد المضادة القاتلة لهذه الجراثيم. هذه نماذج سقناها لبيان عظمة هذه السُّنَّة وصدقها، وكل يوم تتقدم فيه العلوم يُظهر لنا الحق جلَّ وعلا من الآيات ما يدلّ على أن العقل له حدود يجب عليه ألا يتعداها. {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِى الآفَاقِ وفِى أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53].