قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فى القلب لمّتان لمة من الملك ولمة من الشيطان، فأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليحمد الله عز وجل، وأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق فمن وجد ذلك فليستعذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم تلا صلى الله عليه وسلم: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ ويَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ واللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وفَضْلاً واللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 682]. وفى حديث آخر قال -صلى الله عليه وسلم-: "إذا ساءتك سيئتك وسرَّتك حسنتك فأنت مؤمن". وفى حديث ثالث جاء رجل إلى النبى -صلى الله عليه وسلم- يسأله عن البر والإثم فقال -صلى الله عليه وسلم-: "يا وابصة، جئت تسأل عن البر والإثم، البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ماحاك وتردد فى الصدر وإن أفتاك الناس أو أفتوك". أحاديث كثيرة فى هذا الباب وكلها تعطى مقاييس للمؤمن يستطيع من خلالها أن يعرف أين مكانه ودرجة إيمانه، فالحديث الأول يعطى مقياسا لخواطر النفس، للوساس التى تدور داخل النفس! "فى القلب لمتان" أى خاطرتان، خاطرة تجذب للخير وأخرى تجذب للشر، والمسلم أعطاه الله تعالى ما يغنيه عن غلق باب الشر وطرد هذه الخواطر وفتح باب الخير إلى الله تعالى، فيفتح نوافذ الخير بطاعته لله، فإذا استقام على أمر الله، سُقى ونمى جانب الخير فيه فكبر وترعرع، وأغلق باب الشر فضيق عليه فمات فيه وانصرف وقُطع دابر خواطر السوء ونوازع الشر؛ لذلك فإن المسلم اليقظ يجد دائما خواطر الخير ودوافع الخير وتجد اهتماماته كلها خير، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "فمن وجد ذلك فليحمد الله"، يحمد الله أن جانب الخير فيه غلب على جانب الشر، أما من وجد الجانب الآخر -جانب الشر- فيقول صلى الله عليه وسلم: "من وجد غير ذلك فليستعذ بالله من الشيطان الرجيم".. هكذا يسأل الإنسان نفسه مع مَن يعيش؟ وما الذى يحركه؟ وما أهدافه؟ أهو يسير نحو الخير راضيا بالحق متعلقا بالحلال متجنبا للجوانب الأخرى؟ فإذا كان كذلك فهذا هو المسلم. لذلك قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف: 202]، هذا بعكس غير المسلم، فهو لا يشعر بجانب الخير أبدا؛ لذلك قال صلى الله عليه وسلم: "شيطان المؤمن هزيل وشيطان الكافر سمين". وهذا تعبير حقيقى، لأن شيطان المؤمن لا يُستجاب له، ودائما توجه له الاستعاذة والاستغفار فهو يائس بائس، لأن الحرب موجهة إليه. أما شيطان الكافر فسمين؛ لأنه يُستجاب له، هو الذى يصرف صاحبه ويحركه، يفتح أمامه باب الشر ويغلق باب الخير، فهو سلطان يأمر وينهى كيفما شاء، أصبح صاحبه عبدا له، أصبح عبدا للشيطان على الرغم من أن الله يحذرنا بقوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَلَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ][يس: 60]، لذلك جاء فى الحديث: "المؤمن ليُمضى شيطانه كما يمضى أحدكم راحلته"، أى أن المؤمن هو الذى يصرف شيطانه ويوجهه كما يوجه أحدكم راحلته، فالمؤمن يُتعبه ويُذله ويطرده كما يسيطر المؤمن على راحلته ويستخدمها فى الحر والبرد وفى وقت الشدة فتصبح ذليلة وضعيفة لأنه أمضاها وأتعبها. المقياس الثانى: إذا سرتك حسنتك وشعرت براحة وطمأنينة فأنت مؤمن، فإذا قصرت ووقعت فى سيئة تشعر بالألم والحزن والضيق بسبب السيئة فأنت مؤمن. لذلك كان سيدنا عمر -رضى الله عنه- يقوم كل يوم بمحاسبة نفسه على ما فعل فى يومه من طلوع الفجر إلى الليل، لخوفه من قوله تعالى: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 14]، فإذا كان ذلك فى الآخرة فأولى أن نحاسب أنفسنا ونستعد لذلك فى الدنيا، فكان سيدنا عمر نموذجا لذلك عندما يحاسب نفسه فإن وجد خيرا حمد الله ونام وإن وجد غير ذلك ندم واستغفر وربما ضرب نفسه وعاقبها. لا بد من وجود هذا الإنسان الحى فهذا التفاعل هو دليل الحيوية، دليل الشعور الفياض الذى يملأ النفس دليل أننا عبيد الله نشعر به فنخشاه: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90]، فهذا مقياس لنا، نقيس به إيماننا. إذا فرحت بالحسنة وداومت عليها، وإذا حزنت وندمت على السيئة وتُبْتَ وأقلعت عنها فهذا دليل الإيمان. المقياس الثالث: فى الحديث الثالث مقياس من داخل النفس، وهو المقياس الذى لا يكذب لأنها فطرة، والفطرة من الله وهى حق، فالبر هو ما اطمأنت له النفس الذى تفعله النفس، وهى راضية ومستبشرة بهذا الأمر، فهذا خير، أما الذى تفعله النفس وهى غير مطمئنة ولا ينشرح الصدر لهذا الأمر، فهذا دليل على أن هذا الأمر لا يُرضى الله عز وجل. البر هو ما اطمأنت إليه النفس والإثم وهو ما حاك وتردد فى الصدر، فعندما تسأل عن شىء أو أمر مختلف فيه ويحسنه بعض الناس ثم لا تطمئن النفس إليه فيجب أن تتجنبه، وهذا هو البعد عن الشبهات، البعد عن الأمر المريب الذى فيه شك، فإذا لم يكن الأمر واضحا أمامك كوضوح الشمس لا تقترب منه. وهكذا نرى اهتمام الإسلام بما فى داخل النفس، فلماذا كل هذا الاهتمام، لأنك إذا وجدت بناءً مزخرفا ومذركشا وعليه طلاء بالذهب ولكن بداخله قمامة وغير نظيف، فما قيمة هذا البناء إذن؟ وما الفائدة منه؟ كذلك الإنسان فإن فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهى القلب، ومن هنا كانت مهمة الإسلام الأولى بما فى داخل النفس، لأن البذرة إذا كانت خربة من الداخل وبها عطب فهى لن تنبت شجرا، كذلك النفس إن لم يكن فيها إيمان فهى لا تنبت استسلاما ولا تنبت طاعة ولا عملا صالحا، ولن تثمر تقوى ولا إحسانا ولا انقيادا إلى الله عز وجل أبدا؛ لأن قانون الله عز وجل أن الفاسد لا ينبت صلاحا، كما أن البذرة الفاسدة لا تنبت شجرا. إن الحقيقة الإيمانية هى حقيقة القلب فينزع الإسلام منه لحل العوامل التى تشوش على هذا الإيمان، يأمره أن يركع ويسجد يصلى ويقف صفا، فنجد الإسلام يقضى على نوازع النفس، فلا تجد تفرقة بين الناس، ولا تجد فى الصلاة صفا للأغنياء والوزراء وآخر للفقراء، ولكن الإسلام يعلنها صراحة "كلكم لآدم وآدم من تراب"؛ وذلك لتطهير النفس من الشوائب والأمراض مثل الكبر، لذلك جاء فى الحديث القدسى: "إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع بها لعظمتى". هكذا ينزع الإسلام هذه الأمراض من القلب يريد القلب السليم الذى تنتزع منه هذه الشوائب، لأنه يريد أن يملك هذا القلب حبا ويملأه نورا بالطاعة؛ لأن الإنسان الذى بداخله كبر لن يقف ليصلى، لن يقول: "اهدنا الصراط المستقيم"؛ لأن قلبه كله غل وكله أحقاد. هكذا وضع الإسلام لنا مقاييس ليست بحاجة إلى معلم؛ فالمؤمن تسره حسنته وتسوؤه معصيته، يفعل ما اطمأنت إليه نفسه ويترك ما يحيك فى صدره، ويتبع الفطرة السليمة التى تدله على الحلال والحرام، ولا يكون كهؤلاء الذين يعملون الحلال ويتهربون ويتحججون ويكذبون على أنفسهم، ولكن الإسلام عالج كل شىء حتى هذه الخواطر التى تدور فى النفس ووضع لنا مقاييس واضحة نسير عليها لنحافظ على إيماننا. ---------------------- بقلم فضيلة الشيخ/ محمد عبد الله الخطيب من علماء الأزهر الشريف