د. صلاح عز - الأستاذ بهندسة القاهرة على وزن "فتشنى فتش" لزعيم الكوميديا الحقيقى، الفنان الراحل إسماعيل ياسين، لم أجد أدق من هذا العنوان للتعبير عن تهافت النظام الحاكم الجديد على استرضاء العلمانيين، وابتذال هيبة الدولة من أجل إرضائهم، وبالذات الأغلبية الغوغائية منهم. ربما تكون هذه المرة الأولى التى أكتب فيها بسخرية عن قضية معينة، ولكن ماذا أفعل إذا كانت الجدية غير مثمرة؟ فقد حذرت طويلا بلا جدوى من مغبة الاستسلام للترويع الصحفى والابتزاز الإعلامى. يبدو أنه كلما أساء العلمانيون الأدب وأمعنوا فى البذاءة والسوقية والكذب، خاصة الصحفيين والإعلاميين منهم من أصحاب الصوت العالى، فإن أطراف الحكم والمسئولية تمعن فى تدليلهم ومحايلتهم ومحاباتهم وتمييزهم. كان أول اجتماع للرئيس مرسى فور تنصيبه مع رؤساء تحرير وسائل التضليل (الإعلام سابقا) من صحف وفضائيات، وجلهم من العلمانيين الكارهين للتيار الإسلامى الرافضين لوجوده. وكان أحدهم قد رفض من قبل دعوة القائلين "دعونا نجربهم فى الحكم"، فقال عن الإسلاميين "إنهم كالبيض الفاسد رائحته كريهة، فليس من المنطق أن نتذوقه". مرت أسابيع ولم يتوقف هؤلاء عن أكاذيبهم وبذاءاتهم، فاجتمع بهم نائب الرئيس، المستشار مكى. ثم مرت أيام قليلة، وإذا برئيس الحكومة الدكتور قنديل يعلن أنه سيجتمع هو أيضا "برؤساء تحرير الصحف القومية والحزبية والخاصة، وعدد من كبار الإعلاميين ومقدمى البرامج التلفزيونية للاستماع إلى آرائهم ومقترحاتهم حول المشاكل التى تمر بها مصر، إلى جانب التشاور حول الإستراتيجية العامة للدولة خلال الفترة المقبلة فى كافة القضايا الاقتصادية والسياسية والمجتمعية". بتعبير آخر، فإن هذه الجماعة لم تحظ فقط بريشة على رأسها تحصنها من العقاب دستوريا على جرائم النشر.. بل إن الحكم بأركانه الثلاثة مصرٌّ على النفخ فيهم لإعطائهم حجما أكبر بكثير من حجمهم الطبيعى، وانتقائهم، عوضا عن جميع النخب المصرية، للإفتاء فى كل شىء بما فى ذلك "الإستراتيجية العامة للدولة". حتى الصهاينة فى الإعلام الأمريكى لم يحققوا هذا القدر من التهافت على إرضائهم مع الإدارات الأمريكية المختلفة. فلم أسمع قط عن مسئول أمريكى يعاملهم بصفتهم خبراء فى كل شىء. إذا أضفنا إلى ما سبق، اجتماع لجنة المقترحات بالجمعية التأسيسية أغسطس الماضى مع رؤساء تحرير البرامج الحوارية بالفضائيات "للاستماع لآرائهم فى المواد الدستورية"، واجتماع كتاب "حظيرة فاروق حسنى" منذ أسابيع مع الرئيس، بعد شهور مارسوا خلالها ولولة مزعجة من خلال الصحف والفضائيات، واللقاء الذى حظى به كبيرهم مؤخرا مع المستشار حسام الغريانى رئيس الجمعية التأسيسية، والذى وعده فيه بأن يرسل إليه أولا بأول مواد الدستور لكى يدلى برأيه فيها، واللجنة الفنية الاستشارية ذات الأغلبية العلمانية التى تم تعيينها "لمراجعة وتصويب صياغة مواد الدستور"، والإعلامى الذى اعتُدى على سيارته والممثلة التى تعرضت للسب، فخصتهما الرئاسة برسائل ترضية.. فإن السؤال الذى يفرض نفسه، على الأقل بالنسبة لى، هو: إشمعنا هم؟ لماذا لا أجد من يدلعنى ويدللنى ويسعى لاسترضائى؟ هل لأننا فى زمن "اللى يولول يكسب"؟ هل لأنى بطبعى صوتى خفيض ولا أتحمل الصوت العالى؟.. علما بأن الصوت الخفيض دليل قوة وثقة بالنفس وليس العكس. هل لأنى أكره البذاءة والكذب ولا أقبل اغتصاب ما ليس لى فيه حق؟ هل لأنى أنفر من الكاميرات والصفوف الأولى وأبتعد عنها فى أى مكان وأى محفل؟ هل لأن انتمائى للإسلامية السياسية يشعر من فى الحكم بأنه لا يوجد من ناحيتى ما يستدعى القلق والخوف، وبالتالى فإن ما أكتب أو أقول يصبح أقل أهمية مما يصرخ به العلمانيون؟ أم هل لأن الإخوة الكرام فى الحكم نسوا سورة (عبس) ومغزى بداياتها {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءَهُ الأعْمَى..}؟. وماذا عن الاستجابات المتتالية للاعتصامات والإضرابات؟ كيف توافق الحكومة، أمام مظاهرات سائقى "السرفيس"، على تخفيض مخالفاتهم لدى نيابات المرور؟ كلنا لنا تجارب مع بلطجة سائقى "السرفيس"، وكلنا نعلم مدى احتقارهم للقانون وقواعد المرور، وحجم الفوضى التى يخلقونها فى مواقف سياراتهم. إن التعامل معهم يجب أن يكون بتشديد المخالفات، وليس بتخفيضها أو إلغائها، لأن الاستسلام لترويعهم وبلطجتهم، سينعكس قطعا فى الشارع مزيدا من البلطجة والترويع، وينعكس على النظام الحاكم مزيدا من إهدار الهيبة والاحترام. أيضا، نقرأ كل يوم عن محاولات لتهريب البنزين والسولار بكميات هائلة، نجحت مباحث التموين فى ضبطها. والمفروض أن هذه جريمة إفساد فى الأرض تتطلب تطبيق حد الحرابة، أى الإعدام. ومع ذلك نجد التعامل معها مفرط فى اللين، ومشجع على استمرارها. إن أسوأ سياسة يمكن أن تُحكم بها مصر الآن هى مسك العصا من المنتصف، والتهرب من الحلول الحاسمة والجذرية خوفا من الترويع والابتزاز والبلطجة. إن هذا هو الطريق الأمثل إلى ما حذرت منه من قبل، وهو صهينة مصر. من أهم خصائص الصهينة هى القدرة على ترويع الخصوم، وردعهم عن ممارسة حقوقهم المشروعة، ودفعهم إلى نهج طريق معين يسيرون فيه وهم كارهون، لا لشىء إلا لتجنب صخب وضوضاء الإعلام المتربص بهم. فمثلا، كان من حق الصحفيين الإسلاميين بعد عقود من الحظر، أن يقودوا الصحف القومية بعد الثورة. غير أن السيرك الإعلامى الذى نُصب لهم ترويعا وابتزازا، وصل بهم إلى درجة الامتناع التلقائى عن مزاولة هذا الحق. تعنى الصهينة بالنسبة لمن هم فى مواقع المسئولية، القابلية للترويع والترهيب، وتعنى بالنسبة للمواطن، القابلية للتدليس والتضليل. والأداة فى ذلك هى وسائل التضليل من صحف وفضائيات، التى أصبح العلمانيون المتصهينون يعتمدون عليها لفرض دستور معلمن على مصر، ولضرب شعبية الإسلاميين تمهيدا للانتخابات القادمة. وإذا نجحوا فى ذلك، ستكون حلاوة النجاح مضاعفة لأن المهمة تمت برضاء ورضوخ الإسلاميين، فلا يستطيع أحد منهم بعد اليوم أن يعترض أو يمتعض عندما تظهر حقيقة اللئيم الذى حاولوا بكل سذاجة إكرامه. ثم هناك السؤال الأهم: هل يعنى رضوخ الحكم لترويع وابتزاز العلمانيين فى الداخل، والحرص على استرضائهم على أمل اتقاء شرهم.. هل يعنى ذلك رضوخا مقابلا لترويع وابتزاز الصهاينة فى الخارج حرصا على استرضائهم على أمل اتقاء شرهم؟ نصيحتى للمحيطين بالرئيس مرسى، ولكل من يحرص على استرضاء غوغاء العلمانية، هى: اتعظوا من تاريخنا المرير مع إسرائيل.. إن العلمانيين لن يرضوا عنكم أبدا حتى تتبعوا ملتهم، ولن يرضوا عنكم حتى تقمعونا بأيديكم نيابة عنهم، كما فعلت إسرائيل مع أبو مازن ومن قبله عرفات. وحتى عرفات، بالرغم من قمعه للمقاومة، فلأنه لم يذهب معهم إلى نهاية طريق التنازلات، قتلوه. وأخيرا تعليقان.. الأول: إن حكم البراءة للجميع فى قضية موقعة الجمل يذكرنى بما جرى فى ثلاثينيات القرن الماضى عندما فشل المدعى العام الأمريكى فى إدانة رجل العصابات الشهير آل كابون على جرائم القتل وتهريب الخمور، فقدمه إلى المحاكمة بتهمة التهرب من الضرائب. افعلوا الشىء نفسه مع المتهمين الذين برأتهم المحكمة.. حاكموهم على ثرواتهم الحرام التى راكموها خلال عهد مبارك، شريطة أن يستقيل النائب العام أولا من منصبه. الثانى: كم كنت أتمنى أن يكون الاحتفال بذكرى حرب أكتوبر أكثر تواضعا، بعيدا عن المظهرية (Showing Off) التى تتسم بها احتفالات رؤساء أمريكا بمناسباتهم. كم كنت أتمنى لو أن الرئيس خطب فى الناس من قصر الرئاسة بدلا من الاستاد. وكم أتمنى لو يشدد الرئيس على كاتب خطاباته أن يختصر ويختصر ويختصر، حتى لا يتجاوز الخطاب نصف ساعة أو 45 دقيقة على الأكثر. وكم أتمنى أن يبتعد الرئيس عن الأرقام والنسب المئوية التى لم يذكر لنا كيف حددها بهذه الدقة.