د. عادل فهمى أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة نصر كبير للشعب المصرى بمناسبة ذكرى حرب 1973م، ونصر بمناسبة استمرار روح الثورة، ونصر للرئيس بخطاب محترف وذى مصداقية عالية وقوة منطق. لقد أعجبنى وأقنعنى، لكن لن أخوض فى محتوى الخطاب؛ فهذا له سياسيون ومحللون كثيرون، لكننى سأقف اليوم مع عناصر النجاح فى الشكل الفنى والخطابى الذى نجح فيه الرئيس مرسى بصفته خطيبا مقنعا!. مع توالى الحشود والإعلان عن الخطاب منذ فترة مبكرة انتظرت خطاب الرئيس وفى ذهنى كثير من الملاحظات التى كثيرا ما يأخذها معارضو الرئيس عليه فى الخطابات السابقة وفى أحاديثه التلفزيونية. وبحكم المهنة أمسكت بورقة وقلم لتعداد هذه الملاحظات، فإذا بالرئيس يفاجئنا بخطاب طويل يزيد عن ساعتين، لم نملّ منه، بل ترقبنا فقرة بعد فقرة؛ فإذا بالدكتور مرسى يحقق قواعد فن الإلقاء بدرجة مبهرة. وإليكم تحليل الخطاب من حيث الفن الاتصالى: أولا- امتلاك مهارات الإلقاء: فن الإلقاء له مهارات إذا توافرت فى الشخص يتحقق له قدر كبير من القبول المبنى على الحرفية. ومن ذلك: 1- الشخصية المتماسكة: بدا الرئيس قويا متماسكا غير متوتر، مبتسما؛ فقد اختار بدلة، ولم يرتدِ رابطة عنق، ولا يتمسك بالشكليات كثيرا، وطاف حول ملعب الاستاد، وفى عربة مكشوفة بقلب شجاع لم يخف، مع ثقتى بأن كثيرين كانوا خائفين عليه. وهذا مما أعطاه التماسك وملأه بالثقة؛ ما انعكس عليه فيما بعد أثناء الخطاب. 2- قوة المعرفة: بدا الرئيس رجل دولة بحق، عالما بالحقائق، مبديا بعضها ومخفيا بعضها الآخر. وهذا يعطى المتلقى الثقة بتمكن الرئيس من مصدر القوة -وهو المعرفة المنافية للجهل والغفلة والسطحية- ما انعكس على قوة الخطاب أيضًا. 3- الحساسية نحو الجمهور: حيَّا الرئيس أصحاب الدار رجال القوات المسلحة وأطال؛ فهُم سبب المناسبة، وحيا رجال الشرطة وإن كان بدرجة أقل، وحيا الوزراء ودافع عنهم، وحيا القيادات والمسئولين، والتفت فى كل الاتجاهات حرصا على ألا ينسى أو يهمل أحدا، فأتعب الأمن الخاص معه؛ وهذا من فرط حساسيته نحو الجمهور الذى أتى به إلى الرئاسة؛ ما انعكس على تحية الجمهور إياه قبل الخطاب وأثناءه وبعده. 4- الحساسية تجاه الموقف الخطابى: بدا الرئيس متفهما المكان واتساعه، ومتفهما أدوات الإلقاء من ميكروفونات و"استاند" وأوراق، وكان تحركه بحساب أكثر من ذى قبل، والتوقف أثناء التحية والإصرار على المضى فى الكلام حينما تطول تحية الجمهور.. والجمهور يتفهم ذلك حتى لا يطول الوقت. ثانيا- طرق التغلب على القلق الاتصالى: بعض الناس حينما يواجه جمهورا مثل ما واجه الرئيس (عشرات الآلاف) يصيبه شىء من القلق الاتصالى فيجف لعابه ويحتاج إلى ماء ويحتاج إلى تسليك حنجرته كثيرا. وهذا لم يحدث؛ لعدة أسباب؛ منها أن الرئيس خطيب منذ زمن، ومحاضر لعشرات السنين بالجامعة، وسياسى وبرلمانى لسنوات عدة. ومما ساعده على التغلب على القلق ما يلى: 1- الرئيس اتخذ الاحتياطات المطلوبة؛ فهو مدرب على طبقة الصوت ونبرته ومتى يرفع الصوت ومتى يخفضه. 2- اعتمد على الملاحظات المكتوبة: لم يعتمد الرئيس هنا على خطاب مكتوب كليا، بل اعتمد على ملاحظات مكتوبة وإحصاءات مدونة وأسماء محددة، ولما خرج عنها كان ذلك توضيحا وتفصيلا، ثم عاد إلى الأفكار المدونة، ولم ينحرف عن الأفكار الرئيسة للخطاب. ومثل هذا النوع من الخطباء يكون لديه تخيل لدرجة النجاح، ويعرف ما يمكن أن يحققه، فتغلب على المخاوف الكامنة، ولم يبالغ فى المظهر العام، ولم يقف كثيرا عند التوقعات. 3- الاستعداد الفسيولوجى: بدا الرئيس شديد التركيز، هادئا عامة، محافظا على لياقته وحركات الوجه واليدين والمشى قليلا يمينا ويسارا.. ولما تحرك التقط "المايك" المتحرك. 4- الصحة العامة: بدا الرئيس بصحة عامة جيدة؛ ليس متعبا ولا مرهقا. وهذا ظهر فى طول الخطاب بقوة ثابتة، بل تصاعدت قوة النبرات دراميا حينما فصّل وشرح واطمأن على قبول الجمهور بعض الضعف فى تنفيذ وعوده.. تصاعدت نبرة الصوت لتنهى الخطاب باسترسال لفظى مقنن ومرتب ومشبع بألفاظ عاطفية. 5- تنظيم النفَس: لم نلحظ جملا طويلة ينقطع فيها النفس، بل اختار جملا قصيرة ومحددة، فحدث التوازن بين التنفس وخروج الأصوات بأسلوب طبيعى تماما. ثالثا- أساليب الإلقاء: تتنوع أساليب الإلقاء بين الارتجال الذى لا يخضع للتخطيط ويستخدم فى المناسبات غير الرسمية. وهذا النوع قد يناسب مسئولى الإعلام والمتحدثين الرسميين والمؤتمرات الانتخابية، وبين أسلوب الإلقاء النصى، وهو القراءة من ورقة بالكامل الذى يعتمد الخطيب فيه على نص مكتوب تفصيلا. وهذا أيضا يناسب الخطابات الرسمية الصرفة. ومن عيوبه أنه توجد حساسية للخطأ اللغوى للخطيب، ويقطع الصلة مع المتلقى؛ لذلك لم يستخدم الرئيس لا الارتجال المطلق ولا الإلقاء النصى؛ ذلك لأن المناسبة -وهى مناسبة وطنية- مناسبة شعبية، والجمهور حاضر بكثافة؛ فلا يليق أن يخاطبه بنص مكتوب أو يعتمد على نص محفوظ يتطلب هدوء أعصاب ويتسم بالجمود والأداء الميكانيكى. لقد اختار د. مرسى أفضل أسلوب للحالة وللمكان وللمناسبة والجمهور، وهو أسلوب المخطط المرتجل، وهو وسط بين النظامين: المرتجل والمكتوب؛ ما ساعده على الالتزام بالتخطيط الجيد بالقراءة من الخطوط العريضة؛ ما أعطاه المظهر الجيد أمام الجمهور، ولم يعرّضه للقلق مع إظهار الرئيس متسما بالعفوية والديناميكية، وهذا ما رأيناه وهو يتحرك لا ينسى الخطوط العريضة للخطاب، ولا يهمل التفصيل العفوى متى تطلب الموقف ذلك. إذا طبقنا العلم على خطاب الرئيس من الناحية الفنية، نلحظ التالى: - إعداد النص جيدا لتحقيق ثلاثة أهداف: التحية لأصحاب المناسبة، وسبب الثورة، والتعريف بوضع معين وتقديم معلومات معينة، والإقناعبحسن سير المرحلة الماضية وخلوها من قصد الخطأ أو التقصير فى العمل ودعم ثقة الشعب بالرئاسة والحكومة. - توقعات الجمهور: لم يخيب الخطاب توقعات الجمهور؛ فقد حشد الرئيس معلومات دقيقة ومواقف واقعية وقيما دينية ووطنية عبر عنها فى ثنايا الخطاب، وكشف جانبا من الفساد، وجانبا من التركة الثقيلة، وجانبا من سلبية الناس. - التوثيق من المصادر الشخصية والوثائقية يعطى الخطيب مصداقية ويقينا فيما يقول؛ فقد ذكر الرئيس أرقاما وكميات ومساحات وأحجاما ولم يخطئ ولم يتردد؛ ما يعنى حضورا ذهنيا وتحضيرا جيدا واستعدادا للرد على حجج الخصوم بكل حزم وتوكيد.. ومع ذلك تنازل عما يقع فى حقه، لكنه أبدى أسفه لما يحدث من ظلم وعدم إنصاف!!. - الصياغة: مع طول المقدمة والاستهلال الذى تطلبه الموقف الوطنى، تظل صياغة الكلمات والجمل والفقرات متوازنة إلى حد كبير ومحققة لأهداف الخطاب: احتفال، وتعريف، وإقناع. - وضوح الخطوط العامة للكلمة فى ذهن الرئيس مكّنه من قول كل ما يريد بالطريقة التى أرادها: تحية وتقدير وعرفان، وتذكير وشرح وبيان، ورد على انتقادات، وختام. بالتحليل العلمى الموضوعى أقول إننا أمام نقلة نوعية فى خطابات الرئيس؛ فإذا أضفنا إلى ذلك اختيار الموقع والمكان، وكثافة الجمهور وتنوعه، وطريقة الدخول المهيب فى الاستاد والمسرح المكشوف يمكن القول إننا أمام تطور كبير خلال شهرين؛ فماذا نتوقع بعد أربع سنوات بمشيئة الله يا ريّس؟! يا سيادة الرئيس، سر مسددا على بركة الله.. والله حسبك وحسبنا ونعم الوكيل.. حفظ الله مصر.