لم تكن معركة مأرب الأخيرة جولة عادية في حرب اليمن، وإنما كانت محاولة كسر العظم الأخيرة أمام ثلاث زوايا متصارعة؛ الأولى الرواق الدولي المتداخل اليوم بكثافة بوضع اليمن كمنطقة نفوذ إيرانية، ومن ثم وقف الحرب والحل السياسي سيكون بناءً على هذه القاعدة، والثاني هو القوى الإقليمية العربية المؤثرة، المحسوبة على دعم الشرعية أو خارجها، فكلتا القوتين ضد الشرعية أو معها، بغض النظر عن الموقف الرسمي. لا تراهن أبداً على انتصار الجيش الوطني والقبائل الحليفة، التي تُبقي غطاء الشرعية لأجل الحفاظ على الاعتراف الدولي باليمن الجمهوري وباستقلاله، وعدم التسليم بتحويله إلى ضاحية جنوبية، أو شعبة للحشد الشعبي يؤسس فرعه اليوم في جنوب الجزيرة ثم شرقها مستقبلاً، بعد أن كانت مهامه العسكرية دعم نظام الأسد، أو التصفيات الدموية للمدنيين، لمصلحة النظام الطائفي الذي أعقب احتلال العراق. وهذا البعد الوطني القبائلي اليمني هو الطرف الثالث في المعادلة، وهو الذي واجه معركة مأرب المفصلية، وهذا لا يعني أن طهران أسندت في آلية الحرب من قبل رعاة الشرعية الذين يقوم دعمهم اليوم على أساس تصور جديد، لا يشمل عودة استقلال اليمن الجمهوري للبناء على مخرجات الثورة، في طرف الرياض التي قد يختلف موقفها عن أبوظبي، بحكم أن حسم مأرب كان بوابة عزل الجسم الجنوبي، وضمه رسمياً لمصالح الإمارات العربية المتحدة. ولكن في نهاية الأمر صبت التحالفات أو تقزيم الشرعية، المهترئة والمضطربة أيضاً في هيكلها وتحالفاتها، في صف اجتياح مأرب، وكسر ضلع اليمن لمصلحة العمامة الإيرانية الإمبراطورية، والتي كانت جنازة مأرب تمثل لها كنزاً ذهبياً، لا يعدله شيء في ظل المفاوضات القادمة بين طهران وبين إدارة بايدن. وكم هو مؤلم ومروع أن يكون الجيش وقبائل اليمن لصمود مأرب عربياً، قد قدمت هذا العدد من القتلى، بل ما هو أيضاً جرح نازف سلسلة القتلى المدنيين والجوعى والمرضى والمصابين، المسؤولة عنه كل أطراف الحرب، غير أن احتفال القنوات والمصادر الإيرانية من صنعاء، أو بيروت أو بغداد أو طهران، بأن هذا الشعب، الذي دافع قبيلةً وجيشاً عن مأرب، هم ثلة عملاء، أمرٌ مثير للسخرية والاشمئزاز. ونحن نرى كل قتلى الحرب ضحايا إلا من أدار اللعبة القذرة على الثورة، منذ عهد الرئيس علي عبد الله صالح وشركائه الخليجيون، حتى الاجتياح المدعوم إيرانياًلصنعاء، ولا نرى حفلاً ولا احتفالاً بضحايا الأسرة اليمنية كيفما كان انتماؤهم أو جهتهم، غير أن صمود مأرب في المعركة الأخيرة كان يعني إعطاء فرصة لكي يبقى اليمن بعيداً عن ضمه ككرت جوكر متحرك لمصلحة طهران في الأرض العربية. وهنا نفهم قرار إيران في رسالة قصف الظهران السعودية الأخير، ولا يُغيّر شيئاً كون القصف كان من طائرات مسيرة من الحوثي، أو صواريخ باليستية من الحشد الشعبي في جنوبالعراق؛ فكلها جبهات إيرانية، قرار تحريكها يأتي في ظل رغبة الإيرانيين الجامحة في تعزيز أوراق التفاوض في هذا التوقيت، في ظل فشل تاريخي ضخم لما يسمى بحلفاء الشرعية. وخلافاً لما يعتقده البعض بأن إيران أو بقية أذرعها تخفض الحرب في ظل مفاوضات غرفة مسقط، والاتصالات الدولية، المدعومة مؤخراً من واشنطن والاتحاد الأوروبي، وأن هذا يضعفها باسم السلام ومصالح الطاقة، فهذا كومة من وهم. فإيران تعلم أن قاعدة اللعبة تقوم على تذكير كل الأطراف بأنها تفرض بقاء الحرب البادرة بناء على قدراتها وتبعية الأذرع الطائفية لها، وليس بحكايات السلام ولا الحفاظ على أطفال اليمن، الذين لم يُلقوا في جهنم الحرب قبل قرار اجتياح صنعاء، وهدم اليمن وتحويله من جمهورية أسقطت الخرافة، إلى خرافة دموية باسم الدولة الإمامية. ………………………………….