من لوازم التقدم لأى مجتمع ومضيه نحو الرقى والازدهار وجود نخبه فى طليعة المشهد قادرة على الابتكار والتحرك به نحو الأفضل، إلا أنه من عجائب الأمة المصرية أن نخبتها دائما كانت سبب نكبتها وفساد طباعها. فمنذ انقلاب يونيو 1952 عمد العسكر إلى سياسية تكوين الأذرع وإفساد مؤسسات الدولة لتصبح مؤسسات وظيفية موالية للنظام سائرة فى ركابه، تقدم فلسفات كلما اقتضى الأمر للتغطية على جرائمه وممهدة لترسيخ أقدامه وحماية امتيازاته. كان فى صدارة هذا التشويه إنشاء نخبه فى بلاط السلطة مقيده بما تصدره أجهزة حماية النظام من رؤى واستراتيجيات لا تتخطى أطره أو خطوطه الحمر فهى ببساطة نخبه حامية محمية طالما سارت فى ركابه وتمرغت فى تراب بلاطه، ولعل المشاهد لا يجد عناء فى اكتشاف هذه الحقيقة الصارخة فى العصر الناصرى (هيكل نموذجا) والعصر الساداتى الذى شهدت هذه الظاهرة فى عصره توسعا ملحوظا، أما العصر المباركى فقد شهد نقلة نوعية فى صناعة النخبة عندما أسند المخلوع هذا الملف للسيدة حرمه ووزيره المخضرم فاروق حسنى الذى سخر وزارة الثقافة وجوائزها وما تمتلكه من مقومات وموارد فى سبيل الاستحواذ على النخبة وتوجيه إنتاجها واستخدام سياسة العصا الغليظة والجزرة السمينة كآلية مستدامة للمكافئة والردع. لم يشعر المواطن العربى بأى شىء تقدمه النخبة لأنها عمليا عاشت النخب العربية والنخبة المصرية فى عوالم منعزلة تماما عن تلك التى تعيش فيها الشعوب؛ يطعمون طعاما غير طعامهم ويكتبون وينتجون لشعب آخر ولأناس آخرين، فالنخبة تسكن القصور ويعيش معظم الشعب بين المقابر والعشوائيات يركبون المراكب الفارهة، فيما يموت الشعب تحت القطارات، يتقاضون آلاف بل ملايين الجنيهات فيما يأخذ الشعب الفتات، هكذا كانت نخبتنا تموت من التخمة فيما يموت الشعب من الجوع، وهنا تأتى صرخة الشاعر العربى أحمد مطر فى وجه النخب المصنوعة والأوضاع المقلوبة فيقول: كفرتُ بالأقلامِ والدفاتِرْ. كفرتُ بالفُصحى التى تحبلُ وهى عاقِرْ. كَفَرتُ بالشِّعرِ الذى لا يُوقِفُ الظُّلمَ ولا يُحرِّكُ الضمائرْ. لَعَنتُ كُلَّ كِلْمَةٍ لمْ تنطَلِقْ من بعدها مسيرهْ ولمْ يخُطِّ الشعبُ فى آثارِها مَصيرهْ. لعنتُ كُلَّ شاعِرْ ينامُ فوقَ الجُمَلِ النّديّةِ الوثيرةْ وَشعبُهُ ينامُ فى المَقابِرْ. لعنتُ كلّ شاعِرْ يستلهِمُ الدّمعةَ خمرًا والأسى صَبابَةً والموتَ قُشْعَريرةْ. لعنتُ كلّ شاعِرْ يُغازِلُ الشّفاهَ والأثداءَ والضفائِرْ فى زمَنِ الكلابِ والمخافِرْ ولا يرى فوهَةَ بُندُقيّةٍ حينَ يرى الشِّفاهَ مُستَجِيرةْ! ولا يرى رُمّانةً ناسِفةً حينَ يرى الأثداءَ مُستديرَةْ! ولا يرى مِشنَقَةً حينَ يرى الضّفيرةْ! ** هكذا كان حال النخبة فى بلادنا حتى ثورة 25 يناير التى جاءت مفاجئة لهم بعيدة عن كل توقعاتهم بعد أن أيقنوا أنهم نجحوا فى تخدير الشعوب. حاولت النخبة التأقلم مع الوضع الجديد واللحاق بالثورة المصرية عن طريق تبنى المواقف الثورية وسرد البطولات الزائفة فى مواجهة نظام مستبد كانوا كُهّانه وسدنة معابده، كانت الساحة السياسية شديدة السيولة تسع الوافد الجديد من شباب ثورتها المجيدة فضلا عن المتحجر فى مرابضها أو المتحول يلعب على كل الحبال. أصبحت الفترة الانتقالية برئاسة المجلس العسكرى فرصة جيده لتموضع النخبة فى بلاط العسكر، فقوبل هذا التموضع بهوى عسكرى واضح فى حشد القدرات تمهيدا للمعركة القادمة مع الثوريين الجدد وقوى التيار الإسلامى وفى القلب منها الإخوان المسلمون، فكانت المفاجأة حصد التيار الإسلامى معظم مقاعد الشعب والشورى وحسم مقعد الرئاسة. وجدت النخبة نفسها يتيمة فى العراء دون غطاء من النظام لأول مرة منذ إنشاء جمهوريه العسكر فى يونيو 52 بعد النجاح الجزئى للرئيس الدكتور محمد مرسى فى إغلاق أبواب الفساد المتصل بجمهورية فاروق حسنى ورفاقه. باتت النخبة تبحث لها عن مأوى ولم يكن أمامها إلا مغازلة العسكر وتذكيره بالامتيازات التى باتت مهددة مع تكون الجمهورية الثانية والتمكين للدولة المصرية الديمقراطية المدنية الحديثة. اضطر العسكر لتغيير خططهم واستخدام أذرعهم فى كل مؤسسات الدولة (تشبيك الفاسدين) لإفشال التجربة الوليدة ومحو آثار الثورة، فكان اعتمادها الأبرز على النخبة المحنطة فى التشويه والتبرير والتنفيذ. لم يجد العسكر إلا الرصيد الشعبى للجيش كى يتكئ عليه ويتترس وراءه فى سبيل الإطاحة بالمؤسسات الشرعية المنتخبة واحدة تلو الأخرى فى ظل عجز النخبة عن تكوين قواعد حقيقية على الأرض. أصبحت الأزمة المصرية الراهنة حالة كاشفة لهذه النخب المزيفة؛ فقد الانقلاب كشف عن مكنون الصدور والمخبأ فى حنايا الضمير، ما زالت الثورة المصرية ملهمة للجماهير فاضحة للمتاجرين بالكلمة والعابثين بالوطن.