قبل دقائق قليلة من مباراة مصر وغانا في نهائي كأس الأمم شعرت بسعادة غير عادية لرؤية ذلك الكم الهائل من الأعلام المصرية في كل مكان .. لكن ذلك لم يمنعني من التساؤل. منذ بداية البطولة اعتدت رؤية العلم في أيدي البعض لكن في طريقي إلى صالة تحرير FilGoal.com قبل النهائي فوجئت بالعلم في أماكن جديدة منها محلات الفول والطعمية ومحلات الجزارة، ثم سيارات تاكسي وميكروباص وسيارة نصف نقلة تحمل براميل مادة سائلة لا أعرفها .. حتى سائق التاكسي الذي ركبته وقف في الإشارة يداعب الجنود داخل سيارة أمن مركزي وضباطها في مشهد نادر الحدوث .. لأطرح السؤال على نفسي "هل نحن وطنيون حقا؟". هذا السؤال طرحته على نفسي مرة واحدة سابقة في الدقائق الأخيرة من الشوط الثاني لمباراة مصر والجزائر في أم درمان عندما كنا في أشد الحاجة إلى هدف تعادل فيما ذهب إلى السودان عشرات من الأشخاص الذين "ركبوا الموجة" وأرادوا أن يظهروا في صورة المساندين للمنتخب فيما لم يسمع عنهم أحد عندما لعب المنتخب أمام رواندا وزامبيا خارج ملعبه. ووقتها أيضا تساءلت "إذا كنا نحب بلدنا إلى هذا الحد فلماذا لا نعمل من أجلها بجد؟ وإذا كان الجميع يحلم بالتأهل إلى المونديال لماذا لا تهتمون بإصلاح أحوال كرة القدم على مدى أربعة سنوات بدلا من الاهتمام بها في يوم واحد فقط؟".
هناك أبطال داخل الملعب .. وهناك أبطال خارجه أيضا ببساطة شديدة .. لماذا ينتاب الكثير منا شعورا أن الوطنية صارت مقصورة على كرة القدم وتشجيع المنتخب فقط؟ بينما الضمير غائب في أي شيء آخر وحب الوطن يتحول إلى رغبة هائلة في الإفساد في جميع المجالات. ربما يتصور البعض أن طرحي هذا السؤال هو تقليل من شأن إنجاز المنتخب المصري كما يفعل بعض المتعالين على كرة القدم .. لكني أعتبر نفسي من عشاق الكرة وقد كتبت منذ عدة أشهر تحت عنوان "أريد لقبا سابعا" .. لكن ما يثير الضيق هو أن يتحول الفوز بكأس إفريقيا أو الوصول إلى المونديال إلى المظهر الوحيد للوطنية في مصر. ولعل الجميع لاحظ أنه قبل بطولة إفريقيا 2010 بأسبوع واحد فقط صارت الأغاني الوطنية فقرة دائمة في جميع الإذاعات والقنوات ولم يقتصر الأمر على إعلام الدولة "اللي بيكون غالبا حافظ مش فاهم" لكني أصبت بالرعب عندما وصل الأمر إلى الإذاعات على الإنترنت التي يديرها شباب من جيلنا. وخصصت كل الشركات الكبرى في مصر إعلانات بالملايين لدعم حملات التشجيع المصرية بينما هي مجرد إعلانات تؤكد بها مكانتها في السوق المصري .. والجميع يردد شعار "يلا نشجع مصر".
يلا نشجع مصر هناك تفسير لهذه الظاهرة .. فعقب تتويج مصر الإفريقي عام 2006 قرأت تصريحات لدكتور أحمد عكاشة أستاذ الطب النفسي يقول فيها إن المصريين يحبون كرة القدم بجنون لتوافر عنصر الشفافية فيها .. فالناس تشاهد المستطيل الأخضر بشفافية كاملة وتشعر بمن يبذل الجهد وبمن يتخاذل في اللعب وتنتقد بحرية وبالتالي فلا مجال للوساطة أو "الكوسة"، كما أن فوز المنتخب يعود على الجميع بالسعادة والفخر ولا يقتصر على فئة بعينها. ورغم اعتقادي الشخصي بصحة أقوال عكاشة وانطباق ما يقول الرياضة بصورة عامة وليس على حال منتخب مصر وحده لكن كل ما أتمناه هو أن يكون حب البلد ظاهرة عامة تظهر في تصرفاتنا كلها ولا تقتصر على المنتخب وحده. وفي اعتقادي أن المواطن المصري يحب بلده بجنون ولا يفتقد الوطنية لكن الظروف المحيطة به ومناخ الفساد العام يدفع للسلبية. فعلى سبيل المثال تعرضت مصر لكارثة السيول التي اجتاحت محافظتي أسوان وشمال سيناء خلال إقامة كأس الأمم الإفريقية وفي الوقت الذي كانت فيه الأغلبية تتسابق لرسم الأعلام على الوجوه وشراء منتجات تحمل كلمة مصر كانت قلة بسيطة من الشباب الواعي تتبرع بالوقت والجهد والمال لمساندة ضحايا السيول! .. والموضوع بسيط ويبدأ كما فعل بعض الشباب الإسكندراني بالتبرع لهم بأدوات المائدة من "ملاعق وأواني طهي وخلافه".
السفر إلى سيناء لا يحتاج تأشيرة .. والأغاني الوطنية يمكن إذاعتها كل يوم بل أن خلال شهر يناير تعرضت مصر لمصائب عدة من بينها إغلاق معهد الأورام بسبب عدم صلاحية المبنى المقام عليه .. طبعا الحكومة هي المسئول الأول .. لكن أين يذهب المرضى خلال هذه الفترة؟ ببساطة الشباب الذين تجمعوا مساء الأربعاء أمام سفارة أنجولا قبل أقل من 24 ساعة من مباراة الجزائر للحصول على تأشيرات يمكنهم السفر إلى سيناء "بدون تأشيرة خالص" ويمكنهم التبرع بالدماء وبأشياء أخرى كل حسب مقدرته وتخصصه. العمل التطوعي هو أحد القنوات المهمة جدا لخدمة الوطن بل أن حتى الإخلاص في العمل العادي خدمة كبيرة للوطن خصوصا إذا كان في القطاع الحكومي وحتى إذا كان دخل الموظف أو العامل بخسا. في مصر هناك الملايين من الفقراء وهناك آلاف القضايا التي تحتاج إلى حل بمجهود تطوعي لكن للأسف وسائل الإعلام لا ترى هذه المصائب كمبرر كاف لإذاعة الأغاني الوطنية وشحذ الهمم والأخطر أن ننسى كأفراد هذه القضايا. وأعرف أن الجميع سيصب غضبه على الحكومة وعلى الفساد "اللي للركب" وعلى "اللي واكلينها والعة" لكن في النهاية أمام كل فرد أن يكون سلبيا او إيجابيا وكل منا يعرف جيدا أن بوسعه عمل خير دون أن يخدم "الحكومة اللي هو مش بيحبها" .. وحملات تشجيع مصر ممكن أن تتحول إلى "يلا نشجع مصر" لكن في مجالات أخرى. مرة أخيرة هذه الكلمات ليست لتأنيب من احتفل أو فرح أو رقص فوق سقف سيارته بأجمل انتصار كروي في تاريخ مصر .. لكنها مجرد دعوة لنتساءل "هل نحن وطنيون حقا؟"