حينما سئل محمود الجوهري أي المباراتين ستكون الأصعب لمصر في كأس العالم هولندا أم انجلترا؟ ابتسم وقال بلاشك أيرلندا. كانت وسائل الإعلام المصرية واثقة أن أيرلندا هي بوابة التأهل المصري لدور الستة عشر، وأنها أضعف فرق المجموعة – مقارنة بإنجلتراوهولندا- وأن الفريق المصري لا بد وأن يلعب بشكل هجومي لحسم المباراة، لكن الجوهري لم يلتفت إلي ذلك مطلقا. كانت الخطة التي وضعها الجوهري لتحقيق حلم التأهل للدور الثاني من كأس العالم تعتمد علي جمع ثلاث نقاط من ثلاث تعادلات، ومن ثم التأهل كواحد من أحسن ثوالث كما كانت القواعد المعمول بها في كأس العالم حينذاك. ولقد نجحت الخطوة الأولي بالتعادل مع هولندا، لكن مواجهة فريق أيرلندا كانت تختلف تماما، ولذا فقد كان علي الجوهري البحث عن الأسلوب المناسب لتحقيق هدفه. لذا دعونا بداية نتعرف من هو منتخب جمهورية أيرلندا ؟ في عام 1987 نجحت جمهورية أيرلندا في التأهل لكأس الأمم الأوروبية لأول مرة في تاريخها، بفضل رجل انجليزي يدعي جاكي تشارلتون هو شقيق بوبي تشارلتون أحد أعظم لاعبي الكرة في إنجلترا والعالم. نجح جاكي في جمع تشكيلة من اللاعبين البارعين من الدوري الإنجليزي والذين ينحدرون من أصول أيرلندية وكون بهم فريقاً شاباً يعتمد علي الأداء البدني القوي، وفنياً علي الأسلوب البريطاني العتيق المتلخص في إرسال كرات رأسية إلي منطقة جزاء الخصم حيث ينتظرها مهاجمون طوال القامة وخلفهم لاعبو وسط يتمتعون بتسديدات قوية، وفي الدفاع هناك مجموعة من اللاعبين الأشداء أو كلاب الحراسة المفترسة الكفيلة بإبطال فعالية أخطر المهاجمين ضم الفريق نجوماً كبار أمثال لاعبو ليفربول المهاجم ( جون أولدريدج)، ولاعبو الوسط روني ويلان وراي هاوتون، وستيف ساونتون، ومدافع مانشستر يونايتد بول ماجراث، وديفيد أوليري قائد الأرسنال، والمهاجمان العملاقان توني كاسكارينو (استون فيلا)، ونيال كوين ( مانشستر سيتي) وفي يورو 88 كانت أيرلندا هي الحصان الأسود، فقد بدأت لقاءاتها بمواجهة الخصم التقليدي إنجلترا ، وفي مباراة هي الأهم في تاريخ الجمهورية الأيرلندية نجحت في الفوز علي ( مهد الكرة في العالم) ، ومن ثم اصطدمت بفريق الاتحاد السوفيتي الرهيب وتقدمت عليه بهدف عالمي قبل أن يخطف هدف التعادل، وفي المباراة الأخيرة التقت بهولندا – التي ستفوز لاحقاً بالبطولة- ونجحت في الصمود أمامها حتي الدقيقة 83 قبل أن ينجح فيم كيفت – صاحب هدف هولندا في مصر – في خطف هدف الفوز الذي أوقف مسيرة جمهورية أيرلندا في البطولة. واصلت جمهورية أيرلندا صحوتها الكروية في تصفيات كأس العالم 90 في مجموعة قوية ضمتها مع إسبانيا والمجر وغريمتها اللدودة أيرلندا الشمالية – الأقوي كرويا- ومالطة، وبفضل خطط جاكي تشارلتون الماكرة، والأداء المتميز للاعبين تأهلت جمهورية أيرلندا لكأس العالم لأول مرة بعد أن احتلت المركز الثاني خلف إسبانيا بفارق نقطة واحدة وبفضل دفاع قوي لم يستقبل إلا هدفين في ثماني مباريات. عندما تم سحب قرعة كأس العالم 90 كانت المفاجأة أن جمهورية أيرلندا قد عادت لمواجهة نفس خصوم يورو 88 مع استبدال الاتحاد السوفيتي بالمنتخب المصري. ولأن الايرلنديين معروفون بالثقة بالنفس، والاعتداد بالذات، فقد أعربوا عن سعادتهم بتلك القرعة وبمواجهة هذه الفرق مرة ثانية لاثبات أن فوزهم علي إنجلترا لم يكن ضربة حظ، ورغبتهم في الثأر من الفريق الهولندي، ولم يكن هناك أي التفات للفريق القادم من شمال أفريقيا الذي اعتبر آنذاك ( حصالة ) أهداف المجموعة. استغل الجوهري تركيز الأيرلنديين علي خصومهم الرئيسيين متوقعا أن مدرب أيرلندا سيبني خطته في مواجهة مصر بناء علي مشاهدته للمباراة الافتتاحية بين مصر وهولندا ، لذا فقد بدل الجوهري كل شئ في مواجهة ايرلندا. فالمنتخب الذي لعب بأسلوب متوازن بين الدفاع والهجوم أمام هولندا، وكشر عن أنيابه الهجومية سعياً وراء التعادل، تحول إلي ( الطريقة الطنطاوية) المتمثلة في رص اللاعبين داخل منطقة الجزاء، والابتعاد عن الهجوم، والاكتفاء بالتمترس أمام الخصوم، وهي الطريقة التي اشتهر بها فريق طنطا في الستينات وعاني منها الجوهري - مهاجم الأهلي وقتها – إلا أنه وهو مدرب المنتخب قرر إعادة اكتشاف ( الطريقة الطنطاوية) والخروج بها للعالمية. كانت مفاجأة المشاهد المصري كبيرة عندما نزل المنتخب إلي ملعب باليرمو في عصر يوم 17-6-1990 يتقدمه مدافع الأهلي ربيع ياسين، بما يعني أن قائد المنتخب جمال عبد الحميد سيكون علي مقاعد البدلاء، ولم يكتفي الجوهري بذلك بل دفع بلاعب الأهلي أسامة عرابي في مركز الظهير الأيسر علي حساب أحمد رمزي المعروف بنزعته الهجومية، كما دفع بمجدي طلبه – البديل في مباراة هولندا- منذ البداية. كان هذا هو الأسلوب الذي وجده الجوهري مناسبا لمجابهة الطموح اأايرلندي : طريقة 5/4/1 بوجود حسام حسن وحده في المقدمة، والحقيقة أنه بمرور الوقت تحورت الطريقة لتصبح 10/0 ، من خلال التراجع والتمركز حول منطقة الجزاء، وخلق كثافات علي المحاور الجانبية، ومن ثم التصدي للكرات الطويلة التي يطلقها لاعبو أيرلندا من كافة الاتجاهات، وبالرغم من الضغط الأيرلندي المستمر إلا أن فرص التهديف الحقيقية لم تتعد الفرصتين وقد تكفل بهما الحارس أحمد شوبير بمعاونة زملائه في الدفاع وعلي رأسهم الصاعد هاني رمزي. أثار الآداء المصري شديد الدفاعية استياء المدير الفني لأيرلندا الذي صب لعناته طوال المباراة علي طريقة اللعب المصرية، وهو ما انعكس علي لاعبيه الذين حاولوا استفزاز لاعبي مصر في أكثر من مناسبة. وما زاد الطين بلة إفراط لاعبو مصر في اضاعة الوقت بطرق مختلفة كان أبرزها أسلوب جديد في أداء ضربة المرمي يتمثل في عودة أحد المدافعين من مركزه ليسدد ضربة المرمي وقيامه بوضع الكرة وتحريكها بيديه وتثبيتها، ثم التراجع عدة أمتار استعدادا للتسديد، وفجأة يركض المدافع في بعيدا عن الكرة صوب اليمين، ليفاجئنا حارس المرمي بتمريره الكرة إلي ذات المدافع، الذي ينتظر حتى تخرج الكرة خارج منطقة الجزاء، ومن ثم يقوم بإعادتها للحارس مرة أخري، الذي يمسك الكرة ويقذفها للمدافع علي الجانب الآخر. ووصل عدد مرات إعادة لاعبي مصر الكرة للحارس أكثر من ثلاثين مرة في هذه المباراة، منها إعادة من بعد منتصف الملعب، وهو ما أثار استياء الجماهيرالمصرية قبل الايرلندية. ونتيجة للأسلوب المصري اضطر الاتحاد الدولي ( لتجريم ) إعادة الكرة للحارس، ومنعه من الامساك بها بيده، ومعاقبته علي ذلك بضربة حرة من داخل منطقة الجزاء إن فعلها، لتكون هذه هي المساهمة الأبرز لمصر في قانون كرة القدم، إضافة إلي قوس منطقة الجزاء الذي افترحه الحكم المصري عثمان نوري عام 1937. طوال المباراة لم تسدد مصر سوى كرة واحدة فقط في تجاه مرمي الفريق الأيرلندي خرجت من قدم مجدي عبد الغني وعلت المرمي بكثير. وفي الدقيقة 71 جاءت اللحظة التي انتظرتها الجماهير المصرية حينما رفع الحكم الرابع الرقم (12) معلناً عن نزول (مارادونا النيل) النجم (طاهر أبوزيد) إلي أرض الملعب. كانت ضربة معلم جديدة من ( الجوهري)، فبفضل النتيجة الرائعة أمام هولندا خفتت الأصوات الداعمة لطاهر أبوزيد في مواجهة الجوهري، وكان علي الجوهري أن يستبق ارتفاع هذه الأصوات من خلال الدفع بطاهر أبوزيد – المنتقد دائما علي ضعف مشاركته في الدفاع – للمشاركة أمام أيرلندا في إطار عملية التحنيط. بالطبع لم يلمس طاهر الكرة أكثر من مرتين، وتواجد علي أطراف منطقة الجزاء – المصرية – معظم الوقت، في ظل تواجد الفريق بأكمله داخل المنطقة. وحينما سئل (الجوهري) عن سبب الدفع بطاهر، ابتسم بمكر وقال ان الإعلام ينتقده دوما لعدم الدفع بطاهر، وها هو ينتقده بعد مشاركة طاهر. وجدير بالذكر أن هذه الدقائق القليلة هي المشاركة الوحيدة لطاهر أبوزيد في كأس العالم، حيث تم استبعاده من قائمة مباراة انجلترا تماما، ولذلك قصة سنحكيها في المقال التالي. انتهت المباراة بتعادل سلبي تحول معه وجه مدرب أيرلندا من اللون المتورد إلي الأحمر القاني من شدة الغضب، وخلال المؤتمر الصحفي تعرض جاكي تشارلتون لهجوم عنيف من الصحفيين الأيرلنديين الذين انتقدوا بشدة إصراره علي اللعب بالطريقة التقليدية التي استعد المصريون للتعامل معها. فيما اكتفي الجوهري بالإشادة بلاعبيه وبالقول أنهم حققوا المطلوب من المباراة، وأن تعادل إنجلتراوهولندا سلبيا قد جعل فرق المجموعة كلها متعادلة في النقاط والأهداف، بما يجعل الجولة الأخيرة هي جولة الحسم. (يتبع) المحتوى مقدم من صفحة .. تاريخ الكرة في مصر