تعاطفت مع اليونان فى الأزمة المالية الأخيرة، أو فى مأساتها الإغريقية الجديدة، التى تجدد نماذج «التراجيديات» الإغريقية القديمة لسوفوكليس وهوميروس وغيرهما من شعراء الملاحم. وإن يكن على نحو واقعى هذه المرة. تعاطفت كما لو كانت اليونان دولة عربية شقيقة. وليلة الاستفتاء على شروط عصابة الدائنين، شاهرى السكاكين لذبح الشاة اليونانية وإذلالها، طار النوم من عينىَّ وظللت مؤرقاً حتى قال اليونانيون كلمتهم ورفضوا «وصفة الدائنين» وإملاءاتهم وأبوا أن يتجرعوا كأس المهانة والذل بأيديهم. لقد طلب بطل الملحمة الإغريقية الجديد الشاب إليكسس تسيبراس «تفويضاً شعبياً» لمقاومة ديكتاتورية رأس المال الأوروبى والدولى، ومناهضة برنامج التقشف المقترح من الدائنين، وهو برنامج يبدو أنه مصمم لتجويع اليونان وإذلال اليونانيين توطئة للإطاحة بحكومة حزب «سيريزا» الذى واتته الجرأة لإعلان الحرب على تواطؤ الدائنين. والتاريخ الاقتصادى والسياسى للدول حافل بقصص الحكومات التى راحت ضحية «مغامراتها» الوطنية ضد هيمنة الاحتكارات المالية والنفوذ الأجنبى، من تآمر احتكارات البترول لإسقاط حكومة مصدق فى إيران بعد تأميم النفط الإيرانى فى مطلع الخمسينات من القرن العشرين، إلى دور شركة الفواكه المتحدة فى أمريكا اللاتينية فى تحريك الانقلابات العسكرية ضد النظم الوطنية والديمقراطية، مروراً بتحريض شركة قناة السويس لدول العدوان الثلاثى على غزو مصر فى أكتوبر 1956 بعد تأميم القناة. فى اليونان انتفض اليونانيون فى الاستفتاء لكرامتهم الوطنية وشرفهم القومى واستقلال قرارهم الذى اعتاد الدائنون فى مناطق كثيرة من العالم أن يدوسوا عليه. للتعاطف مع اليونان فى «مأساتها» -التى يظهر فيها حتى الآن وجهها الاقتصادى ويتوارى وجهها السياسى- أسباب: 1- إن ما يربطنا باليونان من وشائج التاريخ والجغرافيا أكبر مما يربط اليونان نفسها بفضائها الأوروبى الشمالى، الذى يضمهم معاً إطار سياسى واقتصادى واحد هو الاتحاد الأوروبى. 2- نحن أبناء حضارة متوسطية مشتركة تفاعلت وخلقت مناخاً ثقافياً متقارباً حدا بمفكر مصرى كبير، مثل طه حسين أن ينسب مصر إلى «ثقافة البحر المتوسط». وهو رأى جَرَّ عليه خصومات استمرت طويلاً، لكن من المقطوع به أن «مزاجاً نفسياً» حاراً يكاد يقارب بين أنماط السلوك لسكان منطقة شرق البحر المتوسط من يونانيين وإيطاليين وعرب. وعلى عكس جاليات أجنبية كثيرة استوطنت مصر، كان اليونانيون أكثرهم اندماجاً فى البيئة الشعبية المصرية. كان لهم وجود كبير ومؤثر فى الإسكندرية والمدن الكبرى، لكنهم وجدوا ملاذاً طيباً حتى فى قرى الصعيد البعيدة. كانت الفرن الأفرنجى ودكاكين البقالة العامرة بأصناف الجبن والزيتون ومشروب الإسبيروسباتس عنواناً للرواج فى المدن والقرى المصرية. وكان البقال اليونانى أحياناً مقصداً ائتمانياً لإقراض المزارعين المصريين فى مواسم زراعة القطن. وكانت التسهيلات الائتمانية الصغيرة المقدمة لهؤلاء المزارعين مصدر استقرار فى الريف المصرى، وخلقت وشائج من الود بين اليونانيين «وأبناء البلد» من المصريين. 3- إن اليونان بلد مدين مثل بلادى. وكما أن هناك فى التاريخ «تراجيديات» يونانية، هناك أيضاً بالمثل «تراجيديات» مصرية. ومصر تعرضت فى تاريخها لأزمات من النوع اليونانى، ولألوان من الضغوط الدولية والمهانة القومية التى تركت شروخاً محفورة فى الذاكرة الوطنية. هل تذكر أزمة الدين والرقابة الأجنبية على مالية مصر فى عهد إسماعيل، وحكايات الوزيرين البريطانى والفرنسى كممثلين للدائنين فى الحكومة المصرية، وبيع حصة مصر فى قناة السويس تسديداً لديونها، قبل ما يزيد على قرن تقريباً على أكبر عملية نهب منظم فى التاريخ فيما عُرف بالخصخصة لبيع مدخرات أربعين عاماً من عرق المصريين فى القطاع العام، تحت ضغط صندوق النقد الدولى والدائنين العالميين؟! نفس العصابة التى تتربص باليونان الآن. أليس ذلك وحده سبباً كافياً للتعاطف مع اليونان فى محنتها «إن المصائب -كما قال الشاعر العربى- تجمعن المصابينا..».! قد لا يكون كافياً أن نتعاطف مع اليونان فى أزمتها المغروسة كالأنياب الحادة فى لحم اليونانيين، بل علينا أن نتعلم منها، وأن نستلهم دروسها، ذلك أن من الدروس ما لا يتكرر إلا بعد فوات الأوان. واليونان نفسها ضحية هذا السبات الطويل فى غياهب حكومات لم تكن ترى أبعد من موقع أقدامها، أو بالأحرى أبعد من آفاق مصالحها وهى ضيقة. مثل هذه الحكومات تستمرئ الحلول السهلة مثل «الديون» والإفراط فى تعاطيها حتى إن كانت تكاليفها باهظة فى الأجل الطويل، فهى تؤمن بالحكمة الكينزية (نسبة إلى الاقتصادى الانجليزى الشهير اللورد كينز) نحن فى الأجل الطويل سوف نكون فى عداد الأموات»!. كانت تلك الحكومات فى وضع سياسى عاجز عن اتخاذ أى إجراءات حاسمة لمواجهة الأزمة الاقتصادية. كان الحل السهل الذى زينته إغراءات الميديا وتملق الدائنين هو الارتماء فى أحضان صندوق النقد الدولى والبنوك الأوروبية رغم شروطهما المجحفة. قبل أن يحمل الشعب اليونانى «سيريزا» إلى الحكم تركت هذه الحكومات اليونان وقد بلغت نسبة الديون الخارجية إلى الناتج المحلى الإجمالى 177 بالمائة، وهى تزيد بمقدار الثلث على النسب المتفق على أنها آمنة. لكنها تركتها فريسة لتحالف رأس المال الأوروبى والمنظمات المالية الدولية التى اعتصرت فقراء اليونانيين بتطبيق ثلاثة برامج للتقشف امتصت عافيتهم وزادت معاناتهم، بعد أن صارت معدلات النمو فى الناتج المحلى سالبة، ما يعنى أن اليونان أخذت تأكل من اللحم الحى، وارتفعت نسبة البطالة إلى 30 بالمائة تزيد بين الشباب المتعلمين إلى 50 بالمائة. وبسبب الفساد الذى ارتبط بمثل هذه الحكومات، فصار عنواناً لها، فإن الدولة فى اليونان لم تكن لتحصل إلا على نصف إيراداتها الضريبية المتوقعة بالكاد، وأفلت من الضريبة الأغنياء وملاك الجزر السياحية! لقد وُضعت اليونان فى مفترق خيارات صعبة، من بينها الخروج من منطقة اليورو والعودة إلى الدراخمة عملتها الوطنية؛ والانسحاب من الاتحاد الأوروبى الذى دخلته «بتدليس» تواطأت فيه الحكومات السابقة مع الاتحاد الأوروبى، لتزوير الشروط المؤهلة لانضمامها للاتحاد. لقد رفضت اليونان بالاستفتاء، أن تشرب السم الزعاف من أيدى دائنيها، وفضلت أن تشربه على يد حكومة أرادت أن تسترد لليونانيين كبرياءهم الوطنى الضائع. هل قررت اليونان الحرة أن تجوع ولا تأكل بثدييها؟!