ظللنا الأيام الماضية نتابع جدلاً وهمياً، ومعركة افتراضية لما يقوله ويدعيه إسلام بحيرى، وفى المحصلة وجدت أن قضية هذه الظاهرة كانت محكومة بمزاجين: الأول هو «المزاج الجاهز» لتمرير وظهور هذه الأفكار، والنماذج، أما المزاج الثانى فهو «المزاج الجاهل» بما يقدم أو يقال، بالإضافة إلى بعض الملاحظات الأخرى: أولها أن فى داخل هذا الرجل استعجالاً مرضياً للنجاح والشهرة والوصول، ففى إشارات يديه تحدٍ انتقامى، وهنا أقصد من هذا النوع أنه ليس تحدياً إيجابياً، بل هو تحدٍ مرضى، بمعنى أنه لا يريد أن يقدم معلومة وليس مخلصاً لها بقدر ما يريد أن يقدم نفسه هو للناس، ومن هنا تأتى فكرة الاستعجال فى الشهرة، وهذا تجلى واضحاً فى نبرة التحدى التى كررها كثيراً: «ردو.. اتكلموا.. اعترضوا على ما أقول»، هو كان يسعى بتدرج إلى ما حدث مؤخراً، مناظرات وصحافة واعتراض، وللأسف نجح فى ذلك، نجح فى استدراج كثير من الناس عبر بروباجندا الخلاف. ثانياً: استغلاله لسيولة الواقع الفكرى، وخصوصاً السياسى أيضاً، فهو ظهر فى نفس الموجة التى جاءت بعد سقوط نظام مرسى والإخوان وفى نفس الوقت كان هناك «مزاج جماهيرى جاهز» لعداء أى نوع من التعصب الدينى والأفكار المتشددة، وبالتالى كانت هناك مقبولية لسماع هذه الأصوات، التى تنتقد التطرف، وتنتقد الفهم الخاطئ للدين إذا اعتبرنا أن ما يقوله كذلك، وعلى هذا الأساس تسرب خفية عبر إحدى الشاشات. وربما أيضاً الذى جعل هذا الشاب يستمر طوال الفترة الماضية أن ما يقوله فى وقت من الأوقات كان على هوى ومزاج السلطة أيضاً باعتباره واحداً من محاربى الفكر المتطرف، وبالتالى هو تسرب عبر منظومة المزاج الجاهز هذه ليبالغ ويصل إلى ذروة خطابه، حيث دعا إلى حرق أمهات الكتب، أمثال «البخارى ومسلم»، ووصل به الحد إلى أن ابن تيمية «جاهل ومجنون». لا أدافع عن أى أحد من هؤلاء الأئمة، ولا أعترف ولا أصدق ما يقوله هذا الشاب متعجل الشهرة، فلم أجد فيما يقوله الشاب أى شىء يستحق أن نخضعه لتحليل مضمون وتحقق علمى. هو يقول أفكاراً متقطعة وأحكاماً مطلقة، ولا يستخدم لغة علمية دقيقة، وليس هكذا يتكلم العلماء أو يختلف العلماء وهو أكيد ليس منهم. الشىء الآخر فى هذه المنظومة المحزنة التى أنتجت لنا مثل هذه الأصوات هو ما يمكن أن أسميه المزاج الجاهل: وهنا كما أشرت سابقاً وجود المزاج الجاهز لقبول ظهوره، فهناك مزاج جاهل عند كثير من العوام، وبعض النخب، هذا المزاج الجاهل الذى أقصده تتجلى أعراضه فى علامات الاندهاش والانبهار لما يقوله، لأن المستوى العقلى الحاكم لهذه الفئات يجعلهم يرون الحمار غزالاً والأرنب أسداً، وبالتالى صمتوا ليس من مبدأ الرضا بما يقول، ولكن صمتوا من مبدأ الخوف من إظهار جهلهم. فى نفس الوقت، كان موقف الأزهر وبعض علماء الأمة أنهم لم يجدوا فيما يقال ما يستحق ورأوا أن القضية إعلامية بالأساس، فليس هناك ضابط أو معيار يحول دون ظهور طالبى الشهرة، ومدعى العلم، وبالتالى كان خطاب الأزهر موجهاً فى الأساس إلى هيئة الاستثمار وإلى مجلس إدارة مدينة الإنتاج الإعلامى. ثالثاً وهذا الأهم أن هذا الشاب وضعنا جميعاً فى مأزق، وربما كان يدرك ذلك طالما فى نهجه خطط استغلال أزمات الوطن والناس، هو يعرف أن كثيراً من التنويريين والمثقفين يقفون مستيقظين أمام سطوة ما هو دينى على الفكر والإبداع، ولطالما تحدثنا كثيراً وطالبنا بأنه ليس من حق الأزهر، كمؤسسة، أن تمنع أو تصادر أى فكر، ولا بد أن يكون دوره دوراً رقابياً توجيهياً فقط، وبالتالى هو كان ينتظر أن يهب المثقفون والتنويرون لنصرته حتى لو تحت مبدأ انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً «وربما وقع بعض المثقفين فى فخ بحيرى وراحوا يدافعون عنه ليس من مبدأ الاعتراف بما يقول أو تصديقه ولكن من مبدأ حرية التعبير، متناسين أن أول شرط لحرية التعبير معيار الانضباط الفكرى وانعكاسه على المجتمع. أخطر ما سمعته على لسان هذا الشاب العجول أنه يؤكد أن الإرهاب صنيعة إسلامية وأن الغرب برىء من الإرهاب، وهنا تذكرت لقائى مع المفكر الراحل «روجيه جارودى» فى 2001 وبعد أحداث 11 سبتمبر، ووقتها كانت موجة الغرب ضد الإسلام مرتفعة بأنه دين الإرهاب وقتها كان روجيه جارودى ينهى لمساته الأخيرة على كتابه «الإرهاب الغربى» وفيه يؤكد بما لايدع مجالاً للشك أن الإرهاب صنيعة غربية بامتياز، الشىء الآخر الخطير أنه يعطى المتشككين فى الدين مبرراً لتأكيد شكهم وخروجهم من حظيرة الإسلام فى وقت ارتفعت موجة الإلحاد بعد عام الإخوان وبعد ظهور نماذج داعش وغيرها التى ادعى أنها صنيعة إسلامية وليست غربية. وكأن هذا الشاب كان يطمح أن يتقمص شخصية المفكر د. فرج فودة ويقول إنه ضحية الظلاميين، وإنه إمام التنوير والتجديد، وحين دعى إلى مناظرات كانت فى رأسه المناظرة التى جمعت بين الشيخ الغزالى، وفرج فودة وآخرين فى عام 92 والتى على أثرها اغتيل فرج فودة. فى المحصلة هناك ثقوب كثيرة فى التركيبة المجتمعية والإعلامية والفكرية تمكّن كثيراً من الأشباه والمدعين من التسرب عبرها إلى ذهنية المواطن المسكين المشغول بلقمة العيش التى تبتعد يوماً بعد يوم ولا يحتمل من يأتى إليه «ليتفذلك» ببعض قراءات هو نفسه لا يفهمها.