لدى الجماعات الداعية للإسلام التباس فى الفهم فيما يتعلق ببعض المصطلحات مثل المواطنة والجنسية.. وهذا الالتباس أدى إلى وجود مشكلات خطيرة متعلقة بالولاء والانتماء لدى هذه الجماعات، إذ إنها تعطى ولاءها وانتماءها فى المقام الأول لعقيدتها، وبالتالى فأى فرد يدين بهذه العقيدة، سواء كان فى أفريقيا أو أمريكا أو الصين أو فى أى مكان من العالم، يكون ولاؤه وانتماؤه لجماعته وليس للدولة التى يعيش على أرضها وفى كنفها.. ولنا أن نتخيل كم المشكلات والصراعات والقلاقل التى تنشأ فى دولة يوجد بها عشرات من هذه الجماعات؛ كل واحدة منها لها انتماؤها وولاؤها خارج حدودها.. ولنا أن نتخيل أيضاً كيف يمكن أن تتحول هذه الجماعات إلى براميل بارود أو قنابل موقوتة داخل هذه الدولة أو تلك.. على سبيل المثال، حزب الله فى لبنان، والشيعة فى سوريا والعراق وشرق دول الخليج، والحوثيون فى اليمن.. هؤلاء يعتبرون ولاءهم وانتماءهم أولا وأخيراً لإيران، يأتمرون بأوامرها، وينتهجون نهجها، ويسعون لتنفيذ أهدافها، ولو على أشلاء أوطانهم. ويعود ذلك إلى الفكرة التى روج له زعماء بعض هذه الجماعات ك(البنا وقطب) لدى أتباعهم، وهى أن «جنسية المسلم عقيدته»، أو أن «الإسلام وطن وجنسية». إن المواطنة تعرّف بأنها عبارة عن علاقة متبادلة بين أفراد مجموعة بشرية تقيم على أرض واحدة، وليست بالضرورة منتمية إلى ذاكرة تاريخية موحدة أو دين واحد.. هذه المجموعة البشرية ينظمها دستور وقوانين تحدد واجبات وحقوق أفرادها.. إنها شبه جمعية تعاونية ينتمى لها -طواعية واختياراً- أفرادها بشكل تعاقدى، فالذى ينضم إليها اليوم له نفس حقوق من انضم إليها منذ عقود.. وقيم هذه المجموعة فى المفهوم الحديث هو عكس المفهوم التاريخى الذى يقوم على أساس العرق أو الدين أو التاريخ المشترك، فالتنوع نفسه يصبح قيمة كبرى إذا تحقق الانسجام عن طريق التفاعل بين مختلف الخصوصيات، وذلك ب: 1- تفعيل المشترك الإنسانى، 2- تحييد عنصر الإقصاء والطرد، و3- استبعاد عنصر نقاء النسب الذى يؤدى إلى تقسيم المواطنين إلى درجات، كما كان عند الرومان، أو العرب فى عصر الجاهلية. المواطنة إذن رابطة اختيارية معقودة فى أفق وطنى يحكمه الدستور، أو ما سماه الفيلسوف الألمانى «هابرماس» بالوطنية الدستورية، أى شعور الفرد بانتمائه إلى جماعة مدنية مؤسسة على المشاركة فى القيم الأساسية.. والحقيقة أن المواطنة تتسامى على الفئوية، لكنها لا تلغيها، والمطلوب أن تتواءم وتتعايش معها.. ولعل ذلك أهم تحول فى مفهوم المواطنة فى العصر الحديث، ولعله أهم جسر لتكون القيم الدينية لكل مجموعة بشرية محترمة ومقبولة، وأن هذا يلتقى مع المفهوم الإسلامى للتعايش البشرى، بحيث لا يجد المسلم حرجاً، بل قد يكون متعاوناً معها (راجع ما كتبه العلامة بن بيّه فى صناعة الفتوى، المركز العالمى للوسطية، الكويت، 2008). إن الجنسية رابطة سياسية وقانونية بين الفرد والدولة. فهى رابطة سياسية لأنها تربط الفرد بوحدة سياسية هى الدولة، حيث يكون أساسها سيطرة الدولة وسيادتها فى تحديد ركن من أركانها وهو شعبها. وهى رابطة قانونية، حيث تحكمها قاعدة قانونية وتترتب عليها آثار عديدة من الناحية القانونية أيضاً.. ويعرفها الفرنسى «بول لاكارد» بأنها التبعية القانونية والسياسية لشخص إلى السكان المكونين للدولة.. ويعرفها «لوسوران» بأنها صفة الشخص المستمد من الرابطة السياسية والقانونية التى تربطه بدولة هو أحد عناصرها المكونة.. وعرّفها الفقيه «لريبور بيجونيير» بأنها رابطة قانونية وسياسية تنشئها الدولة بمشيئتها فتجعل الفرد تابعاً لها.. أخذ بهذا التعريف عز الدين عبدالله فى كتابه (القانون الدولى الخاص)، و«الحلوانى» فى كتابه (الوجيز فى القانون الدولى الخاص)، وعرّفها شمس الدين الوكيل فى كتابه (الموجز فى الجنسية ومركز الأجانب) بأنها تبعية قانونية وسياسية تضع الدولة قواعدها ويكتسب الفرد بموجبها الصفة الوطنية فى هذه الدولة (انظر ما كتبه عامر مبيض فى موسوعة الثقافة السياسية الاجتماعية الاقتصادية العسكرية؛ مصطلحات ومفاهيم، دار القلم العربى بحلب، 1999). ورغم أن الجنسية رابطة مدنية اجتماعية بين الدولة ومواطنيها الذين يعيشون على أرضها ويلتزمون بدستورها ويتقيدون بقوانينها، لا فرق فى ذلك بين مسلم وغيره، وأن هذه لا تقارن على أى نحو برابطة العقيدة، فهذا مجال، وذاك مجال آخر مختلف تماماً، مع ذلك وجدنا «البنا» يقول عن الإسلام إنه وطن وجنسية (!!).. فإذا كان يقصد بالوطن المعنى المجازى وهو أن الوطن يمثل بالنسبة للمسلم الراحة والسكينة والطمأنينة والملجأ والملاذ فلا بأس، وإذا كان يقصد أن الإسلام يهتم بالوطن ويحض المسلمين على الذود عنه والعمل على الارتقاء بشأنه، والاستغلال الأمثل لموارده وثرواته لصالح أبنائه، فلا بأس من ذلك أيضاً.. لكن الإسلام كعقيدة وشريعة، ليس هو الوطن.. مفهوم الوطن يبدأ من القرية والمدينة وينتهى بالوطن القومى الأكبر.. أما مقوماته فتتلخص فى عنصرين: الأرض والإنسان.. الأرض هى الأساس المادى لحياة الإنسان ومسرح حركته ونشاطه، صعوده وهبوطه، وبدايته ومنتهاه، والإنسان هو العنصر الثانى الذى يتفاعل مع الأرض، تعميراً وتدميراً، بناءً وهدماً، إصلاحاً وإفساداً.. لكن، ما الذى يقصده «البنا» بأن الإسلام جنسية؟ هل المقصود به الرابطة السياسية والقانونية بين الفرد والدولة، على اعتبار أن شمولية الإسلام تتضمن نظاماً سياسياً وقانونياً؟!.. إذا كان ذلك كذلك بالنسبة للمواطن المسلم، فما موقف المواطن غير المسلم الذى يعيش فى هذه الدولة؟ ثم، إن هناك عشرات الملايين من المسلمين يعيشون فى كل قارات العالم؛ أوروبا وأمريكا وآسيا وأفريقيا وأستراليا، وقد استوطنها هؤلاء وصاروا جزءاً من شعوبها، يلتزمون بدساتيرها وقوانينها، ومن ثم أصبحوا يحملون جنسياتها، فهذا أمريكى، وذاك بريطانى، وهكذا، فهل من المقبول أن يلتزم مسلم أو جالية مسلمة تعيش فى أمريكا (مثلاً) بتنفيذ دستور بلدها الأصلى والاحتكام إلى قوانينه، بدلاً من الدستور والقوانين الأمريكية، من منطلق أن «جنسية المسلم عقيدته»؟ وهل يمكن أن تتركها الدولة الأمريكية لتفعل ذلك؟!