تزامناً مع ذكرى الأربعين لوفاة سيدة الشاشة العربية أتذكّر وأذكّركم معى، لم أكن بعد أفرغت حقائبى العائد بها من تغطية مذبحة «شارلى إيبدو» بالعاصمة الفرنسية باريس، التى كلفتنى بها «حينذاك» إحدى وكالات الأنباء الأجنبية، عندما حدثتنى صديقتى الفنانة القديرة «ماجدة الصباحى» بنبرات صوت حزينة، فمن المفترض أنها تطمئن على عودتى من السفر سالماً، فهى عوّدتنى منذ أن عرفتها أن العلاقة بيننا ليست علاقة صحفى كتب مذكراتها ورحل، بل إنها علاقة أمومة وبنوة، فسألتها عن سبب ذلك الشجن الطاغى على نبرتها، فقالت لى النبأ الصدمة: «لقد رحلت فاتن حمامة منذ ثلاث ساعات». لم أصدق المعلومة التى لم تكن حينذاك وصلت لمتناول الصحف والقنوات الفضائية، ولا أعلم لماذا اعتبرتها مزحة، ولكن يبدو أن ذلك الشعور خالجنى لأننى الآن الوحيد فى مصر الذى يعرف جيداً كل تفاصيل مساحة المنافسة التى كانت بينهما، ولكنى صدقت الخبر عندما وجدت ماجدة تجهش فى البكاء، بشعور لا إرادى دمعت عيناى وودعت ماجدة. سبحت فى ذكرياتى مع فاتن التى كنت أكتب لها كتاباً يتضمن «سيرتها ومذكراتها»، وكأنه شريط سينمائى يمر أمامى، مكالماتى الهاتفية الأولى معها، ولعنت الموت الذى يأخذ كل الجمال ولا يترك لنا سوى القبح، لم تتماسك مشاعرى وازداد بكائى حينما شغلت التسجيلات الصوتية التى تجمعنى بسيدة الشاشة والتى قالت فى جزء منها «إن زوجى الدكتور محمد عبدالوهاب نبع من الحب لا يجف وعطاء لا ينتهى، أعتبر نفسى محظوظة لأننى ارتبطت به، فى حين يظن هو دائماً أنه المحظوظ بذلك الارتباط، كنت حريصة ألا يُجرح من ذكرياتى مع عز الدين ذو الفقار، أو عمر الشريف التى ترددها ليل نهار وسائل الإعلام المختلفة فى مناسبات عدة دون مراعاة لمشاعره»، وازداد بكائى وحزنى أكثر عندما استمعت لتسجيل مكالمة هاتفية كانت بيننا، وقامت فاتن فيها بدور الأم الحنون وزودتنى بوصفات مصرية أصيلة للتخلص من نزلة البرد الشديدة التى أصابتنى العام الماضى. حقيقةً، الجميع علموا بوفاة فاتن حمامة، ولكن لم يعلموا بعد سبب الوفاة.. «هل تعلمون لماذا ماتت؟»، ماتت «تونة» ،كما كان المقربون منها ينادونها، عندما تخلى عنها زمنها ومجتمعها، ماتت لأن جيلاً جديداً ينتمى له شقيقى الأصغر «محمود» يردد فى حديثه «فاتن حمادة» بدلاً من «حمامة»، كانت كلمته هذه، رغم عفوية مقصدة، تكوى قلبى وتشوه ملامح وجدانى وتمزق أحبالى الصوتية التى لا أعلم «لماذا عجزت عن تصويب جملته» التى يرددها جيله لأنه جيل جهل ماذا جسدت فاتن، أعتقد أن كل شخص منا ساهم فى قتلها وسيساهم فى قتل البقية القليلة الباقية من جيلها (ماجدة الصباحى ونادية لطفى ومديحة يسرى ولبنى عبدالعزيز وشادية وزبيدة ثروت ونجاة الصغيرة وعمر الشريف). أعتقد أن موت سيدة الشاشة ورحيلها الذى كان مفاجئاً كان أيضاً صدمة «متوقعة»، ولكن الصدمة الأكبر قبحاً فى وداعها الذى غابت عن تنظيمه الدولة فخرج مشوهاً كصنيعة كل ما نقدمه فى أيامنا هذه (مع العلم أن الرئيس اللبنانى وحكومته والشعب نفسة ودّع الراحلة الفنانة صباح بما يليق بتاريخها فخرجت جنازتها شعبية وعسكرية مهيبة). لم تودع سيدة الشاشة العربية بالطريقة التى تليق بوداعها، فمثلاً لم يقطع الرئيس السيسى زيارته للإمارات، نعم يقطع الزيارة «لحدث جلل فى وطنة»، ولم تؤجل الجنازة لتتمكن الوفود العربية من حضورها، ولم يتم تنظيم صف الحكومة والسياسيين والإعلاميين وكافة الفنانين لحضورها، ففى ظل التجاهل لكل ما ذكرت أعتقد أن الحكومة والرئاسة قصّرت فى حق فاتن حمامة للمرة الثانية لأنها تركت مشهد نهايتها يخرجه مخرج فاشل ليخرج بهذا الشكل المهين لها ولنا. فى حين أن المقصر الأول مجتمعها الذى تركها فريسة وحيدة فى زمن الميليشيات وأغانى المهرجانات.