إلى الأجيال الجديدة، تذكروا بأن الإنسان تاريخ وموقف، فلا سر يخفى ولا شهادة تموت. بهذه العبارة افتتح الأستاذ سليمان فياض، الذي رحل عن دنيانا مؤخراً، كتابه نبلاء وأوباش، الذي خصصه للحديث عن المثقفين والكتاب " الشرفاء منهم والسفلة، من آثروا العلو والارتفاع ومن آثروا الانخفاض والتسفل، من ترفعوا عن الصغائر، ويعيشون ويموتون بين المساكين، ومن يعيشون مثل سفلة الشجر والنبات، مثل النمنم الأبيض على الُظفر، ورقط الجرب يتفشى في جسد البعير". ورغم ان الراحل النبيل، لم يسم كل من تحدث عنهم باسمائهم ، إلا أن القارئ المُطلع على الوسط الثقافي في مصر والعالم العربي، استنتج بسهولة من هذا ومن ذاك، وعرف ما يتمتعون به من مهارة فائقة في النصب الثقافي والسياسي واللعب على كل الحبال. وتجسد أمامه بوضوح نموذجان لأوباش الكتاب والمثقفين، وهما نموذج المثقف الفهلوي، الذي يلعب بالبيضة والحجر - بالتعبير المصري الدارج - باحثاً عن تحقيق اكبر قدر من المكاسب المادية والشخصية. ونموذج المثقف المسخ، الذي يتمادى في الانحطاط وبيع الذات والدور والمعرفة، باحثاً عن الثراء والسلطة، فيسلك سلوك الغواني، ويخلع باستمرار قناعاته الفكرية والسياسية حسب كل مرحلة، ولصالح من يدفع أكثر. ويُلاحظ أن الأستاذ سليمان فياض وهو يتحدث في كتابه هذا عن الأمراض الفكرية والسلوكية للكثير من أهل الفكر والأدب والصحافة، الذين عاصرهم وتعامل معهم ، كان يتحدث عن شخصيات تنتمي في مجملها لجيل الستينيات، وهو جيل تعلم على يد أساتذة كبار واتيح له سياق رصين في التعليم والتكوين، لم يتح لأي جيل بعدة، حيث بدأ الانحدار في الذوق، والأخلاق، والمدرسة، والجامعة، والثقافة المصرية يسير بمعدل كبير منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، حتى وصلنا لحالة من التردي الصاعق، صارت إليه النخبة المصرية، حيث تقلصت مساحة النبلاء تماما، واتسعت مساحة الأوباش إلى أقصى حد. وقد كشفت التطورات الأخيرة في بلادنا، منذ ثورة 25 يناير حتى اليوم، عن حجم النبلاء والأوباش فيما بيننا، وأظهرت الوضع المتردي الذي صارت إليه الجماعة الاكاديمية والثقافية المصرية، ومدى التناحر فيما بينها، وعزلتها المروعة عن المجتمع الذي تعيش فيه، ولماذا تبدد دورها و قل تأثيرها، وخف وزنها تماما في حساب صانعي القرار وواضعي السياسات العامة للدولة. كما كشفت هذه التطورات عن كثير من الأمراض التي استوطنت النخبة المصرية، وحالت دون قيامها بدورها التنويري وتفاعلها الإيجابي مع واقعها، وسياقها الإنساني والاجتماعي؛ كالنرجسية المفرطة والتمركز حول الذات، وأوهام النخبوية و المبالغة في تقدير أهمية الدور والمكانة، وأخيراً الازدواجية بين القول والفعل، وهو أكثر الأمراض شيوعا، لأن أغلب هؤلاء لديهم ازدواجية بغيضة، بين ما يكتبون وبين ما يحيونه واقعاً وفعلاً؛ فهم يقولون ما لا يفعلون، ويريدون أن يجعلوا من أقوالهم وكتاباتهم أداة لتغيير كل الناس إلا أنفسهم. وأظن أننا اليوم نعيش ذروة هذا التردي في مجتمع النخبة المصرية، ويتضح ذلك من حالة التناحر الشديد فيما بينها، وكذلك من موقفها المؤيد أو المعارض للسلطة الحالية؛ فأغلب المؤيدين كذابين زفة ورجال لكل العصور والانظمة، وبعضهم وطنيين شرفاء، يأملون خيرا في النظام الحالي، ويحسنون الظن برجاله. اما المعارضون، فبعضهم يعارضها لمجرد المعارضة، لأنه يجد نفسه تماما عندما يقول لا على طول الخط. وبعضهم يعارضها ارتزاقا، وهو يعرف تماما ثمن شرائه وصمته، وبعضهم يعارضها عن حماقة وسوء تقدير، فيزيد الوضع اضطرابا، وأقل القليل من يعارض لوجه الله و الوطن والحقيقة. وخلاصة القول، إن مصر المستقبل ، بحاجة إلى نخبة جديدة، يقل فيها الأوباش رجال كل العصور، ويزيد فيها النبلاء الوطنيون، الذين يضعون الصالح العام نصب أعينهم عندما يعارضون أو يؤيدون.