فى ظنى أن تشرشل لم يكن مبالغاً، حين قال إن إمبراطوريات المستقبل هى إمبراطوريات العقل. وها نحن نرى دول العالم تتقدم من أمامنا، بأفكار أبنائها وعقول مواطنيها، أفكار تصنع حضارات فى سباق الأمم وكأن هذا هو العنوان العام الذى يوضع كلافتة ضخمة فوق كوكب الأرض، وأزعم أننا لا نحتاج فى وطننا إلى كثير أفكار بقدر ما نحتاج إلى تفعيل أفكار، وما أجمل شعار شركة (nike) «فقط افعلها»: «just do it»، فكثير من الأفكار نحتاج أن نَفعلها ونُفعلها لأنها طرحت مراراً وتكراراً. ولكنى أشاركك المتعة صاحبى القارئ وأطرح عليك هذه الأفكار الكبرى والسياسات الخالدة التى ذكرها النبى -صلى الله عليه وسلم- فى خطبة الوداع، هذه الخطبة الخالدة التى سمعناها كثيراً وقرأناها كثيراً، ولكن تبقى المشكلة، تجسير الأفكار، مد الجسور بين الفكرة والفعل، النظرية والتطبيق، القول والعمل، إلى تحويل هذه الأفكار الكبرى الرئيسية إلى إجراءات عملية واقعية على أرض الواقع. فعلى الأغلب الأفكار النبيلة لا تحتاج إلى عقول تفهمها بقدر ما تحتاج إلى قلوب تشعر بها. أزعم أن كل أمة أرادت أن تبنى نفسها، سواء كانت تعمل بمنهج الإسلام أو تحمل غيره لا بد أن تحمل هذه الأفكار وهذه السياسات بل وقل هذه الأُطر، هذه المبادئ التى تجيب عن سؤال استراتيجى كلى: «marb strategic» وهى كيف تُبنى الأمم؟ ومن أعظم ما فى هذه الوثيقة من عبارات ملهمة وكلمات توقظ العقل، الكلمة الافتتاحية التى افتتح بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الخطبة وهى كلمة «أيها الناس» ومن المعروف أن مصطلح «الناس» عندما يُستخدم، فإنه يعنى توجيه الخطاب للمسلم وغير المسلم، والقرآن والسنة يحملان لنا ثلاثة نداءات واضحة: (1 - يا أيها الناس، 2 - يا الذين آمنوا، 3 - يا أهل الكتاب)، وللأسف الشديد، مر كثير من العصور الإسلامية على الأغلب لا نُفعّل إلا (يا أيها الذين آمنوا)، وندع الباقى مهجوراً. «يا أيها الناس» فى خطبة الوداع بمثابة التوثيق النبوى للخطاب الإسلامى العالمى، خطاب لا ينحصر فى زمان أو مكان أو شعب، بل للناس كافة ويا لفخر المسلم حين يقرأ فى كل صلاة { الحمد لله رب العالمين }، فالإسلام للعالمين لكل الناس. ألم أقل لك إن أفكار خطبة الوداع للناس كافة، للدول كافة، للأمم كافة، للحضارات كافة، والفكرة الأولى التى ذُكرت فى هذه الوثيقة وأختم بها المقال هى: 1 - حرمة الدماء والأموال والأعراض ← هذا البند يقول لأبناء المجتمع الوليد، لأبناء الجيل الجديد، للأمم البكر: تعلموا كيف تُديرون اختلافاتكم بعيداً عن الدماء، كيف تشيدون دولتكم بعيداً عن التعدى على الدماء والأموال والأعراض، وكأنها قاعدة ثابتة صلبة تقول للمجتمع: (الدماء والأموال والأعراض حرمات ثابتة)، خطوط حمراء، مبادئ عليا لا تتغير ولا تتبدل، إذا اعتمدوا حلولاً غيرها وهنا يولد الحوار، هنا يولد التعايش السلمى المبنى على إنسان الحقوق وإنسان الواجبات، فى هذا المبدأ تُبنى العلاقات الثلاثة الرئيسية فى أى مجتمع، وما يتعلق بالدم ← «حماية النفس»، وما يتعلق بالمال ← «حماية الملكية الخاصة»، وما يتعلق بالعرض ← «حماية أعراض الناس». إذن، القاعدة الأولى فى بناء الأمة، فى تشييد الدول: (نختلف ولكن بعيداً عن الدماء والأموال والأعراض)، وتأمل لو أن هذه القاعدة من هذه الخطبة تحولت إلى إجراءات عملية فى دساتير الدول وخطوات قانونية فى مؤسساتها، وقيم ذهنية فى عقول أبنائها، لما دفعت الأمم فى بداية نشأتها هذه الأثمان الباهظة من الأموال والأعراض والأرواح. «خطبة الوداع»← أفكار كبرى، ومبادئ خالدة لكل أمة تتمنى أن تكون رائدة، ولكن كيف تتحول إلى دوافع، وكما يقول كولن: «العالم فى أمس الحاجة إلى الإسلام، والإسلام فى أمس الحاجة إلى من يمثله بحق». وللحديث بقية..