اليوم هو الأول من يناير 2015، بداية عام جديد وبشارة جديدة، نتذكر بعض إحباطات عام 2014 فنتمنى أن يبدلنا بها عام 2015 نجاحات، ونستعيد بعض فضائل العام الذى مضى، فنود لو يصطحبها معه العام الذى يهل علينا. وفى هذه المناسبة، لا أفضل من استعراض العدد التذكارى من «الأهرام العربى» الذى صدر قبل أيام تحت عنوان: فيروز بدون مناسبة. فاجأتنا مجلة «الأهرام العربى» بهذا الإصدار البديع عن جارة القمر، وفاجأتنا أكثر بعنوان العدد «فيروز بدون مناسبة»، فالحكى عن «فيروز» لا يحتاج إلى مناسبة، فرادتها هى المناسبة، وجودها بيننا هو المناسبة. نفدت الطبعة الأولى بعد ساعات قليلة من طرحها فى الأسواق، واختفت الطبعة الثانية قبل أن يفوز كثيرون بنسخة من الإصدار، فهل يبقى بعد كل هذا الطوفان من الشوق لكل ما يكتب عن «فيروز» ويكتب لها موضع للسؤال عن السبب والمناسبة؟ اتسع هذا الإصدار الفيروزى الخاص جداً لشهادات عدد قليل بل وقليل للغاية من المشغوفين بهذا الصوت الملائكى بطول الوطن العربى وعرضه، فكتب ماهر زهدى عن لحظة ميلاد «نهاد»، التى جاءت ثمرة زواج سريانى - مارونى بين «رزق وديع حداد وليزا البستانى، وحكت حسناء الجريسى عن تاريخ حى زقاق البلاط الذى شهد هذا الميلاد، وكيف نزحت إليه الإرساليات الأجنبية وأسست فيه مدارسها، ثم توافد عليه أهل الجنوب اللبنانى نجاة من الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، كما سكنه مهاجرون أكراد من سوريا. وأتصور أن هذه التعددية الدينية / المذهبية / العرقية / الثقافية التى أحاطت بظروف النشأة والتى تعد هى ذاتها من أهم عناصر عبقرية النموذج اللبنانى (وأيضاً من أبرز تحدياته)، ساهمت فى تشكيل شخصية «فيروز» وساعدتها على التنقل بارتياح تام ما بين غناء ترنيمة «يا شعبى ماذا صنعت بى؟» المستوحاة من الكتاب المقدس وقصيدة «غنيت مكة أهلها الصيدا والعيد يملأ أضلعى عيداً». وحتى تتم المفارقة وتتجلى، فإن أحمد خالد يحكى كيف كتب الشاعر المسيحى سعيد عقل قصيدة مكة التى شدت بها «فيروز»، وكيف وهو المعادى للعربية والمترفع عن العروبة كتب بلغة فصحى لا أروع منها قصيدة «سيف فليشهر» عن حق الفلسطينيين فى العودة، وقد تغنت «فيروز» أيضاً بهذه القصيدة فى عام 1966 ليرد عليها الشاعر الكبير نزار قبانى بقصيدة شديدة القسوة واليأس قال فيها «من أين العودة فيروز؟». وجاءت علاقة «فيروز» بمحيطها العربى على صورة علاقتها بلبنان التى لا تعرف الانتماءات الضيقة ولا تعترف بالحدود بين الضيع أو بين السهل والجبل والجنوب. وعن هذه العلاقة المترامية كتبت سهير عبدالحميد وكيف أنها أخرجت «فيروز» من ضيق مجالس السلطان إلى رحابة محاضن الأوطان، لم يحتكر صوتها قط حفل خاص إلا حفل زفاف صديقتها «ناهد»، ولا غنت للحبيب بورقيبة حين زار لبنان لكنها غنت لدمشق وبيروت والقدس والإسكندرية فتكونت فى بعض تلك المدن حلقات فيروزية عن عمد وتدبير، أما حلقات الفيروزيين التلقائية فكانت بلا مدى. أعطت «فيروز» للقضية الفلسطينية أكثر مما أعطاها فلسطينيون كثر، كما قال عنها محمود درويش، شاعر فلسطين الأنبغ. ومع ذلك فإن هذا الصوت الآتى من السماء لم يقدر له أن يعانق أبيات «درويش»، ببساطة لأن ما نجحت فيه «فيروز» فى مجال السياسة لم تتمكن منه فى عالم الفن. احتكر إبداعها الزوج عاصى الرحبانى، وفرض عليها خياراته، أو كما قال أحدهم جعلها خادمة للأغنية، لم يسمح لها بأن تحيى جمهورها مرتين، حتى وإن التهبت الأكف من التصفيق، ولا أتاح لها أن تعيد المذهب والكوبليه، حتى وإن تمايلت الصفوف المتراصة من الطرب، وهكذا أيضاً لم يمكنها «عاصى» من غناء قصائد «درويش» التى تقوم على التفعيلة، فهواه هو و«منصور» شقيقه كان القصائد العمودية. وحتى عندما نفرت «فيروز» وشردت وتمردت على ديكتاتورية الزوج الموسيقار وذهبت إلى عالم الابن «زياد»، حيث الشباب والتجديد وموسيقى الجاز، اكتشفت أنها وقعت فى حبائل ديكتاتور آخر أرادها لنفسه هو، أو كما وصفه ماهر زهدى بأنه كان «أوديبها». وفوق ذلك اكتشفت «فيروز» أن لقدرتها هى نفسها على التمرد حدودها، فقد كانت تخشى من جرأة ألحان «زياد» وكلماته، وتعطى نفسها بين أغنية وأخرى فرصة لالتقاط الأنفاس وأيضاً النقد. انتقد الجمهور غناءها «عاهدير البوسطى»؛ لأن فيها خيانة «والسيدة» أبداً لا تخون، وانتقد غناءها «كيفك أنت»؛ لأن فيها استملاحاً للحبيب «والسيدة» يُتغزل بها ولا تتغزل فى أحد. باختصار تبينت «فيروز» أنه فى كل المرات التى طرحت فيها معادلة إما الفن وإما الحرية فإن اختيارها الأول كان هو الفن، والعبقرية أنه رغم كون الحرية أكسير حياة الفن فإن «فيروز» نجحت من داخل أسوار الرحبانية فى أن تطلق فناً لا يجاريه أحد. فى الإصدار الخاص للأهرام العربى عن «فيروز» التى وصفها أحمد السيد النجار بأنها «سيدة الملكوت الأعلى للغناء» مقارنة متكررة بين «فيروز» و«أم كلثوم»، أو بين «السيدة» و«الست»، كما كان يطلق عليهما، وهكذا نحن نفتش فى تاريخ العظيمتين لنقارن بين مسار ومسار، بين ولع أحمد رامى بأم كلثوم، وتدله أنس الحاج فى حب «فيروز». مولعون نحن بتلك الثنائيات فى كل شىء حتى فى الفن والإبداع، نقارن بين فن حليم وفن فريد، وبين حنجرة أم كلثوم وأصوات فايزة وأسمهان وفيروز، وكأنه فرض علينا فن واحد وصوت واحد، ونتمكن أحياناً من أن نسحب هؤلاء إلى مساحاتنا الضيقة. تحكى آمال فهمى، صاحبة «على الناصية» وصاحبة «فيروز»، كيف اشتكتها «فيروز» لموسى صبرى حين قالت إنها أول فنانة عربية تغنى لفلسطين، ليس مهماً من كان صاحب السبق ولا اسم أول من غنى لفلسطين، المهم ألا ينقطع التغنى بفلسطين وبيوتها وشوارعها القديمة لتظل فلسطين حية فى وجداننا جيلاً بعد جيل. أخذنى الإصدار الفيروزى الرفيع إلى أعلى فلم تعد قدماى تلامسان الواقع بصخبه ومعاركه ومصالحه. لا بأس من التحليق عالياً مع بداية عام جديد لنطل عليه من فوق ونسقط فوقه أمانينا، لا بأس من ذلك أبداً، فتحية إلى رئيس التحرير علاء العطار، الذى أهدانا هدية بدون مناسبة. أما أبسط وأعمق ما قيل فى مدح «فيروز» فى هذا الإصدار المفاجأة فكان قول أميرة سيد مكاوى: «حين أراد الله أن يسمعنا صوت الملائكة خلق فيروز»، وها قد سمعنا وسمونا.