ابن يقتل أباه السبعينى بطلق نارى.. أب يضرب ابنه حتى الموت.. أب يقتل ابنته طعنا بالسكين.. مذيع يقتل زوجته بالرصاص.. إلى آخر تلك الأخبار التى نطالعها فى صفحات الحوادث، ونتساءل بدهشة: ما الذى حدث؟ وما الذى يجعل الإنسان يصبح قاتلا فى أقل من ثانية؟ أين كان العقل آنذاك؟ وما الذى أدى إلى هذا الانفجار؟ يطلق خبراء الطب النفسى والأعصاب على مثل هذه الانفجارات الانفعالية: «القرصنة العصبية»، وترجح الأدلة أنه أثناء هذه اللحظات يقوم مركز معين فى المخ الحافى (الوجدانى) Limbic system بتولى قيادة حالات الطوارئ تلك، ويجند باقى أجزاء المخ لتنفيذ جدول أعماله، وتحدث القرصنة فى لمح البصر، فتنطلق الاستجابة فى اللحظات الحرجة لكى تسبق قدرة القشرة المخية أى المخ المفكر العاقل على استيعاب ما يحدث، أو الحكم على مدى ملاءمته. والعلاقة المميزة لهذه القرصنة، أن من يمرون بها لا يعرفون بعد انقضاء اللحظة ما الذى حدث لهم، فقد فعلوا ما فعلوا وهم غير مدركين لعواقبها، أو حتى فكروا فيها، وهذه القرصنة ليست دائما لحظات منعزلة من الحوادث المرعبة التى تؤدى إلى جرائم ربما تكون وحشية، فهى كثيراً ما تحدث لنا بصور أقل كارثية لكن ليست بالضرورة أقل شدة، ولتتذكر آخر مرة ثرت فيها فى وجه أحد، زوجتك أو ابنك أو حتى سائق سيارة عابرة ثم رأيت بعد أن تفكرت فى الأمر ملياً أنه لم يكن يستدعى هذه الدرجة من الحدة، وتقول فى نفسك: ما الذى فعلته؟ وكيف ولماذا فعلت ذلك؟ كل هذه الأحداث تندرج تحت اسم «القرصنة الانفعالية»، أو الاقتحام العصبى الذى ينشأ من لوزة المخ «أميجدالا». وتتألف لوزة الدماغ (أميجدالا) من مجموعة خلايا عصبية فى الدماغ على شكل لوزة، وهى متصلة دائما بقرن آمون «هيبوكامباس» وتمثل الاستجابات العاطفية والانفعالية للذكريات، وتختص اللوزة بالمسائل الانفعالية، فإذا فصلنا اللوزة عن باقى أجزاء المخ، يحدث عجز كبير فى التعرف على الدلالات الانفعالية للأحداث، وتسمى هذه الحالة أحيانا ب«العمى الوجدانى»، وبدون الدلالات الانفعالية لا يكون للموقف أى تأثير على الشخص، فالحياة دون لوزة مخية هى حياة مجردة من أى معان شخصية أو أى ردود أفعال حسنة أو سيئة، والأهواء والمشاعر كلها تعتمد على اللوزة، والحيوانات التى تزال لوزاتها أو تعطل عن العمل، تفقد الشعور بالخوف والغضب، وتفقد كذلك الدافع للمنافسة أو التعاون فيما بينها، ولا تهتم بتأكيد مرتبتها من النظام الاجتماعى لجنسها، وتصبح انفعالاتها سطحية أو ربما تختفى كلية. والدموع وهى من العلامات الانفعالية المتفردة فى البشر دون غيرهم من الكائنات تنطلق كرد فعل من اللوزة ومن جزء قريب منها، ودون اللوزة لا تكون هناك دموع ندم أو حزن يحتاج للتهدئة، وإنما تكون الدموع عبارة عن مجرد إفرازات من الغدد الدمعية لا تعبر عن أى رد فعل أو انفعال، مثل كثير من الحيوانات التى يعتقد البعض أنها تبكى أحياناً، ويبقى السؤال: كيف نثار أحيانا بهذه السهولة ولهذه الدرجة من اللاعقلانية؟ وكيف تطغى المشاعر الانفعالية والاندفاعية على العقل للدرجة التى يفعل فيها الإنسان حماقة، أو يرتكب جريمة، ثم يعيش بقية عمره يندم عليها، ولا يدرى كيف، ولماذا، فعل ذلك؟ لعل الإجابة عن مثل هذه الأسئلة تصبح منطقية من خلال فهمنا للدور المكتشف حديثاً للوزة المخ، فالإشارات الواردة من الحواس تجعل اللوزة تمسح كل الخبرات السابقة فى «قرن آمون» بحثا عن حل فى المشكلات المشابهة، وذلك يعطى اللوزة موقفا سلطوياً على الحياة العقلية، شىء أشبه بالحارس النفسى الذى يواجه كل موقف وكل إدراك بسؤال واحد يدور فى الذهن «هل هذا الشىء أكرهه؟ هل يمكن أن يؤذينى؟ هل هو شىء أخشاه؟»، وإذا كانت الإجابة توحى ب«نعم»، تستجيب اللوزة فى الحال، وتنقل رسالة الطوارئ لكل أجزاء المخ الذى يأمر كل أجزاء الجسم بأخذ رد الفعل المناسب، ولعل دور اللوزة فى المخ يشبه دور جهاز للإنذار مهمته إرسال نداء الطوارئ إلى إدارة الحرائق والشرطة والجيران، عندما تشير أجهزة إنذار المنزل إلى حدوث أى نوع من المشاكل الخطيرة. ولقد أوضح العالم النفسى «لودوكس» فى أحد أهم الاكتشافات العلمية الهامة أخيراً، أن تكوين المخ يسمح للوزة بوضع مميز كحارس للانفعالات تستطيع من خلاله القرصنة على المخ، وأن الإشارات الحسية من العين والأذن وغيرهما من الحواس تتجه أولاً إلى المهاد، ثم تتجه من خلال وصلة مفردة إلى اللوزة، والإشارة الثانية تذهب من المهاد إلى القشرة المخية أى المخ المفكر العاقل، وهذه التفريعة (من المهاد إلى اللوزة) تسمح للوزة -فى حالة القرصنة الانفعالية- أن تستجيب للحدث قبل القشرة المخية العاقلة، التى تتأمل المعلومات على مستويات متعددة من الدوائر المخية، حتى تستطيع أن تدرك الأمر تماما وتتبينه، وبعدها تبدأ فى الاستجابة التى تتلاءم بدقة مع الموقف وحساباته المنطقية، فالذين يقفزون من النافذة أثناء الزلزال لا يفكرون أو يتخذون قرارهم من خلال القشرة المخية، وإنما تصرفوا من خلال لوزة المخ التى شعرت بالخطر فجعلت الإنسان يتصرف بمنطق الهروب من الموت.