إنه كائن أشبه بالإنسان يعيش على المخدرات المصنَّعة التى تدمر جهازه العصبى، يقود -بلا تركيز ودون أى انتباه- حافلات الموت عبر مسافات طويلة، متحصناً بجلوسه فى الكابينة العالية، ولا يهم أى شىء آخر! المهم المزاج والكيف. ولذا فإن «الرعونة» عِنْد الصُّوفِيَّة هى الْوُقُوف مَعَ حظوظ النَّفس وَمُقْتَضى طباعها. وفى القانون الرعونة هى سوء التقدير أو الجهل بما يلزم العمل به، والأرعن يجهل أو لا يهتم بما كان يجب أن يعمل به. والأَرْعَنُ فى اللغة العربية هو «الشخص الأَهْوَجُ فِى مَنْطِقِهِ.. المُسْتَرْخِى». أما فى الحياة اليومية فنحن أضفنا بعداً جديداً على طريقتنا فى الإبداع، حيث ظهر عندنا الأرعن فى مهنته؛ حتى يؤازر العمل المنطق، فنحن رجال أفعال! وهذا الأرعن تجده فى الشارع وعلى الطرق السريعة يقود آلة معدنية تتحول إلى أداة للموت والدمار عند أول خطأ. وفى اللغة يقال «رَعَنَتْه الشَّمْسُ: آلَمَتْ دِماغَه فاسْتَرْخَى لذَلِك وغُشِىَ عَلَيْهِ». أما نحن فقد استبدلنا المخدرات بالشمس، ومن هنا فيمكن أن نقول فى القاموس اليومى لحوادث مصر: «رَعَنَتْه المخدرات: ضربت دِماغَه وأصابته لطشة»، لكنها لا تمنعه عن العمل وإزهاق الأرواح! ومن رعونة السائقين التى حولت الطرق السريعة إلى ساحة حرب أهلية، إلى رعونة صنف من «رجال المرور» الذين يغيبون عن المشهد نهائياً جالسين فى مكاتبهم، تاركين الشوارع والطرق فى حالة يُرثى لها، أو يقف بعضهم فى الشارع لكنهم يحولونه لمكتب خاص يحصّلون من خلاله الإتاوات. ولا يختلف عن هؤلاء مَنْ ينشئ الطرق دون أى معايير للسلامة، ومن يترك العوائق والأجزاء المتهالكة دون إصلاح. ومثلهم فى الرعونة ذلك الذى يقف بسيارته فجأة، أو الذى لا يترك مسافة آمنة بينه وبين السيارة التى أمامه، أو يتحدث فى الهاتف النقال أثناء القيادة، أو يتجاوز السرعة، أو يخرق الإشارة، أو يسير بإطارات متهالكة، أو يقود واضعاً طفله على رجله، أو يقود وهو يحصِّل الأجرة، أو يقوم بأعمال على الطريق دون علامات إرشادية، أو يصمم الطرق بمنحنيات خطيرة، أو يتركها بدون عوامل السلامة. إنها ظواهر لا توجد مجتمعة إلا فى مصر! ويبدو أن الرعونة قد أصبحت سمة العصر، فهى تضم فى دائرتها أى ممرض أو ممرضة، طبيب أو طبيبة، فى غرفة العمليات، حيث يدخل المريض آملاً فى الشفاء ويخرج فى بطنه فوطة تعيش معه إلى أن يموت بها أو بغيرها، إلا إذا أرسل الله له رحمة من عنده على يد طبيب آخر غير أرعن. وهذه الرعونة نفسها موصولة عند المهندس أو المقاول الذى يهمه المال، فيرصف الطرق دون مطابقة للمواصفات فتقع الحوادث، أو يبنى المبانى فتنهدم على رؤوس من فيها! وهى نفسها رعونة الموظف الذى يجيب المواطن إجابة مضللة، فتكون النتيجة دخول المواطن الغلبان فى «كعب داير» بين المصالح الحكومية، ومثل هذا الموظف أبشع من الموظف القديم صاحب العبارة الشهيرة «فوت علينا بكرة».. يا سلام كانت أيام حلوة! فكان الضياع لمدة يوم واحد، والآن الضياع لمدة شهور. أما تجار الأغذية، فحدث ولا حرج، مأكولات لا تصلح للاستخدام الآدمى، ومأكولات تسبب الفشل الكلوى أو السرطانات بأنواعها أو الفيروسات والبكتيريا التى تضرب كل أجهزة الجسم. والغريب أن هذا التاجر الكبير ومثله العامل البسيط فى أى مطعم عنده التبرير الأرعن الجاهز: «معدة المصريين حديد تتحمل أى شىء»! وهو صائب كل الصواب، ولمَ لا؟! فالمصريون الآن حققوا أرقاماً قياسية فى الإصابة بفيروس «سى»، والفشل الكلوى، وأمراض القلب، والسرطانات. مَنْ الذى يقف خلف كل هؤلاء وغيرهم من حاملى الخاتم الملكى للرعونة؟ إنه صنف من المدرسين يسمح للطلاب بالغش فيربيهم عليه منذ نعومة أظافرهم، ولا يعلم أن هذا الطالب -خلال سنوات قريبة- سيكون هو الطبيب الذى يعالجه خطأ أو برعونة، والمهندس الذى يبنى له بيته غشاً أو برعونة، والقاضى الذى يحكم فى قضاياه زوراً أو دون أن يقرأ الأوراق أو برعونة، والضابط الذى يهمل النظام ويجمد القانون أو ينظم له المرور برعونة، وتاجر الأغذية الذى يغش له طعامه أو يعده له برعونة، أما السائق غير المتعلم فليس للمدرس معه دور؛ وهو نتاج تكوين اجتماعى ونفسى مضطرب، والاضطراب إحدى دلالات الرعونة فى اللغة! إن كل هؤلاء شركاء فى الرعونة، وهم ليسوا أهل مصر الذين عرفناهم فى كتب التاريخ، بل هم غرباء عليها، إنهم نتاج حراك اجتماعى مختل، ولولا بقية من الكفاءات فى كل مجال لضاعت مصر. إن مصر تسير -بعد فضل الله- بفضل رجال فى كل مهنة وفى كل مؤسسة يعملون بجدية وضمير، ويمكن أن أقول لك إن من بين كل مائة هناك خمسة أو ستة هم الذين يحركون العمل، أما الباقون فهم عالة عليهم وعلى مصر. وأولى خطوات إصلاح الرعونة: أن يتم إعمال القانون بقوة وحزم وسرعة حتى يرتدع كل أرعن. وثانى الخطوات: القيام بدراسات تحليلية للمخاطر وأسبابها، واتخاذ التدابير للوقاية منها. وثالث الخطوات: أن يتم تنفيذ سياسة الثواب والعقاب فى كل مهنة ومؤسسة، وأن تقوم النقابات بدورها فى محاسبة المنتسبين إليها. وأخيراً وليس آخراً: الحزم فى اعتماد وتطبيق معايير السلامة فى كل مهنة دون تهاون أو رعونة!