يدور فى الآونة الحالية الحديث حول أهمية التعليم الفنى وضرورة تطويره باعتباره ركيزة أساسية لعملية التنمية المنشودة. وقد خرجت بعض التصريحات مؤخراً تشير إلى أن إصلاح هذه المسألة والاهتمام بها يتطلب إنشاء وزارة خاصة بالتعليم الفنى، وهو ما برز فى التشكيل الوزارى الأخير؛ حيث تم تعيين نائب للوزير يختص بهذه المسألة، على الرغم من أن الوزير الحالى هو أحد المتخصصين فى هذا المجال وسبق له وضع استراتيجية كاملة لهذا القطاع. والأسئلة التى تتبادر إلى الذهن: لماذا فشلت جميع المحاولات السابقة فى إعادة الاهتمام بالتعليم الفنى؟ وهل الحل يكمن فى إنشاء وزارة جديدة للتعليم الفنى، أم أن المسألة أعقد من ذلك بكثير؟ إن الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها تدعونا إلى النظر فى عدة أمور: أولاً: يتسم هذا القطاع بسمات عديدة؛ حيث تشير الإحصاءات إلى أن معظم من يتجهون إلى التعليم الفنى هم من الشرائح والفئات الفقيرة؛ إذ إن أبناء المحافظات الأكثر فقراً غالباً ما يتجهون إلى التعليم الفنى؛ ففى محافظة أسيوط حيث تبلغ نسبة الفقر نحو 59٫6% (وفقاً لبيانات الدخل والإنفاق لعام 2012/2013)، نجد أن نسبة الملتحقين بالتعليم الفنى تصل إلى نحو 138% مقارنة بمن يلتحقون بالتعليم العام، وبالمثل فى محافظة قنا التى تصل فيها نسبة الفقر إلى 57٫5%، تبلغ هذه النسبة نحو 215%، وفى سوهاج حيث نسبة الفقر 54٫7%، فإن نسبة التعليم الفنى إلى العام تصل إلى 213%. يضاف إلى ما سبق أنه على الرغم من أن خريجى التعليم الفنى يشكلون نحو 15٫5% من السكان فإنهم يمثلون نحو 12٫6% من إجمالى الفقراء على مستوى الجمهورية، وتبلغ نسبة الفقر بينهم نحو 21٫3%. ثانياً: على الرغم من أن هؤلاء يشكلون النسبة الغالبة من المشتغلين بنحو 30٫4% من الإجمالى، فإن نسبة البطالة ترتفع بينهم بشدة؛ حيث يشكلون نحو 37٫1% من إجمالى المتعطلين على المستوى القومى فى نهاية يونيو 2014، ومما يزيد من تعقيد المشكلة أن معظم هؤلاء (نحو 66٫7%) تزيد مدة التعطل لديهم على ثلاث سنوات. ثالثاً: أن معظم من يلتحقون بالتعليم الفنى من البداية هم أصحاب المجاميع الأدنى فى المراحل السابقة والذين فشلوا فى الالتحاق بالتعليم العام عبر مجموع الدرجات المؤهلة. وهنا تثار العديد من القضايا الأساسية، التى من أهمها: العلاقة بين التعليم العام والفنى؛ فالجميع يتفق على اتساع الخلل فى هذا المجال ويطالب بالإصلاح، ولكن غالباً ما يتم هذا الإصلاح بصورة جزئية ومؤقتة، وبالتالى لم يتم التعامل الجذرى مع المسألة التى كانت تتطلب دراسة أسباب تفضيل التعليم العام على حساب التعليم الفنى رغم أهمية الثانى بالنسبة للمجتمع. ويرجع السبب فى ذلك إلى عدة أمور، الأول يتعلق بالأطر التشريعية الحاكمة وما يتيحه القانون المصرى من مزايا للحاصلين على التعليم العام مقابل التعليم الفنى، سواء فى الترقى داخل السلم الوظيفى؛ حيث يعد الحاصلون على مؤهل فنى فى درجات أدنى من أمثالهم خريجى التعليم العام، ناهيك عن أنهم يتوقفون عن الترقى عند درجات معينة فى السلم الوظيفى بينما تفتح آفاق الترقى لغيرهم دون حدود. يضاف إلى ما سبق القيم السائدة لدى المجتمع، التى غالباً ما تنظر إلى خريجى هذا النظام نظرة دونية مقارنة بأصحاب التعليم العام؛ فعلى سبيل المثال فإن الاشتراك فى النوادى الرياضية والاجتماعية يشترط الحصول على مؤهل عام، وكثيراً من هذه النوادى ترفض انضمام خريجى التعليم الفنى، والأخطر من ذلك أن القبول بالمدارس الخاصة يتطلب الحصول على مؤهل عام وليس فنياً، وهو ما يشير إلى تحيز النظام التعليمى من البداية ضد هؤلاء، وفى هذا السياق حكت لى إحدى مديرات المدارس القومية أنها فى أثناء اختبارات القبول بالمدرسة قد اختبرت طفلاً وطفلة ووجدت أنهما يتمتعان بقدر عالٍ من الذكاء واللباقة، الأمر الذى يشير إلى أنهما يمثلان نواة طيبة لمواطن ممتاز، بل أجمع كل من حضروا المقابلة على هذه المسألة، ولكن نظراً للأعراف السائدة والعقيمة فقد تم رفض قبول الاثنين لأنهما من أسرة ذات تعليم متوسط، وهى واقعة متكررة. وفيما يتعلق بربط مخرجات التعليم الفنى بسوق العمل، فتدلنا الخبرة التاريخية المصرية على العديد من التجارب التى كانت ناجحة، فى ذلك الوقت، مثل المعهد الفنى للسيارات، التابع لشركة النصر للسيارات، وكذلك معهد التبين، وغيرهما من المعاهد والمدارس الفنية التى ارتبطت ببعض المصانع الكبرى، وهى التجربة التى حاول معهد العاشر من رمضان فى بداية النشأة تكرارها عن طريق ربط المعهد بالمصانع القائمة بالمدينة، لكنها نظراً للقيم السالف الإشارة إليها فشلت فشلاً ذريعاً وتحوَّل المعهد إلى مكتب التنسيق مثله مثل الآخرين. مما سبق، يتضح لنا أن إعادة الاهتمام بالتعليم الفنى لا تقتصر فقط على تشكيل وزارة أو تعيين نائب للوزير وغيرهما من الأمور الشكلية، لكنها تتطلب معالجة جذرية للقوانين واللوائح المعمول بها حالياً مع ضرورة دراسة التجارب والخبرات السابقة التى قامت بها الدولة المصرية خلال الحقب الماضية والنظر إلى التعليم الفنى نظرة شاملة متكاملة تأخذ بعين الاعتبار جميع الأوضاع القانونية والقيمية والمجتمعية ووضع أفضل السبل للتعامل الجدى والمستمر معها.