لا جدال أن التنسيق الجامعى لطلبة الثانوية العامة، يعتبر من أهم المراحل فى حياة كل طالب، بل وأسرة. فهى حصاد ل12 سنة أو أكثر من الالتزام بالتعليم المدرسى، والدروس الخصوصية، وإرهاق الامتحانات التى تأتى إما لا علاقة لها بالمنهج (أسئلة خارج المقرر) أو صعبة، أو -حديثاً- تسريب الامتحانات. فأصبحت الثانوية العامة هى الكابوس الذى لا بد أن تعيشه كل أسرة إلى أن تستيقظ على حلم شباك التنسيق، باستمارة تملأ بها رغبات، وكل طالب وحظه.. الرغبة الأولى أم الثانية أم.. (أى واحدة من قائمة الحشو فى الاستمارة). وتأتى نتيجة التنسيق إذا كانت حسب رغبة الطالب، فهو من السعداء لأن مجموعه أسعده، بغض النظر عن الكلية التى سيدرس بها مرتبطة بهذه المواد أم لا! أو أن الكلية ستتيح له مجال عمل مبكر! أم أن سوق العمل تحتاج إلى خريجى هذه الكلية أم لا! فمن حكم وقرر هو مجموع درجات، واستمارة تنسيق. أما من خانه الحظ وأتت له الرغبة الخامسة أو ما دونها، فهو يقابل أول إحباط فى حياته، وليس فى شىء هين أن يحبط فيه؛ مستقبله! ويقابل المجتمع فرداً ساخطاً، غاضباً من سن 18 سنة وغير راضٍ عن الحاضر والمقبل مقدماً، واللوم كله يقع على مكتب التنسيق. وفى رأيى المتواضع أن التنسيق كان يجب أن يتم مبكراً قبل الثانوية العامة، فى معظم العالم يتم بعد الإعدادية، حيث أن مستوى الطالب التعليمى وقدرته على الاستيعاب تكون قد تبلورت وتحددت معالمها. فمثلاً ماذا تتوقع من طالب حصل على 65٪ فى الإعدادية؟ سيكون مجموعه فى الثانوية العامة فى نفس المستوى إن لم يكن أقل أو أكثر قليلاً.. سيلتحق بكلية ليست على هواه، لمجرد الالتحاق بالحلم أو بالأحرى اللهث وراء.. سراب. فى نفس الكلية، سيجد بجواره الحاصل على 85٪ بل و95٪.. فتبدأ المنافسة غير المتعادلة حتى بعد التخرج. فالحاصل على مجموع أعلى فى الثانوية تكتب له فى ورق الترشيح الوظيفة أينما كانت، فيطيح بالأقل مجموعاً على مقهى البطالة، ليلقى بحمله وحلمه على القوى العاملة. هذا لأن صاحب المجموع المتواضع كان لا بد من توجيهه إلى التعليم الفنى (الصناعى، التجارى، الزراعى، الفندقى)، بدلاً من الإيقاع به فى فخ البطالة بعد 7 سنوات أو أكثر. فعادة هذا الطالب يسعى لسوق عمل مبكر، ولكن لا بد من تدريبه ليكون جاذباً للاستثمارات وسوق العمل المتطور. والتعليم الفنى المتطور، سيكون من 3-5 سنوات وبه تدريب فى أحد المجالات التى ستستعين بطلابها بعد التخرج، وتوفر لهم راتباً رمزياً أثناء التدريب، وبالتالى يرتبط الطالب بدراسة ومجال عمل يوافق قدراته. التعليم الفنى الثانوى هو السلة المهملة فى العملية التعليمية، ولا يركز عليها المجتمع ولا الإعلام، بل يحقرون من قدرها، بالرغم أن من الممكن أن تجد خريج هندسة من كلية مصرية، يتدرب فى مصنع سيارات فى ألمانيا بجانب خريج ثانوى صناعى من إيطاليا مثلاً! وإذا سألت مدير المصنع من ستختار؟ سيختار خريج الفنى الصناعى، لأنه أصغر سناً، أكثر إنتاجاً على المدى الطويل وأقل راتباً من خريج الجامعة! وربط التعليم الفنى باحتياجات البلد الصناعية، خطة قصيرة المدى من 5 سنوات توضع من قبل المسئولين عن المطلوب فى السوق بعد 3 سنوات مثلاً. فإن كنا بصدد إنشاء موانئ جديدة، فنحن نحتاج فنيين فى مجال الموانئ والتخزين والشحن والأرصفة وخلافه. وكذلك فتح أبواب لصناعات جديدة مثل صيد السمك. فمن غير المعقول أن نطل على بحرين، بطول شواطئنا وخليج السويس وخليج العقبة، ولا تزال سفن الصيد خشبية وأدواتها بدائية من أيام فيلم «ابن حميدو»! فى بلاد مثل النرويج والسويد صيد الأسماك يستقطب كل الشباب ليتعلموا ويعملوا بها لأنها مصدر أساسى للدخل ووظيفة مضمونة العائد ويطوّرون من سفنهم عاماً بعد عام حتى إن أفراداً يمتلكون أسطول صيد سمك التونة فى تلك البلاد. إن التعليم الفنى الجيد، يرفع عن الدولة عبء التعليم الثانوى والجامعى المجانى ويفتح الباب لتطوير التعليم الإلزامى وهو الابتدائى والإعدادى من تطوير للمناهج وتحسين فى حال المعلم وتدريبه وتحسين كوادره الوظيفية. فإذا اطلعتم يا سادة على منظومة التعليم الثانوى العام، سنجد أنها أشد المراحل تعقيداً وأكبر سوق سوداء فى مصر مفتوحة تحت اسم الدروس الخصوصية، وأبواب جانبية لشهادات المعادلة الأجنبية، بالإضافة إلى أنها المرحلة التى تسجل أكبر نسبة غياب للطلاب (وغالباً المدرسين أيضاً) وكتب خارجية ومراكز غير مراقبة (للدروس و... أشياء أخرى). مشكلة تطور ونمو بالمجتمع، وارتقاء بمستوى تفكيره ونظرته لاحتياجاته ورغبته فى الإنتاج والعمل، وليس لمظهره ووجاهته الاجتماعية حتى إن كان 9 ملايين من شبابه عاطل ويشكون طوال الوقت أنه لم يتخرج من كلية من أجل أن يعمل هذا العمل! نحن بحاجة إلى قرار جرىء ولكن حكيم، يرى بعين البصيرة وليس البصر. يميز بين ما نحتاجه.. وما نريده. وللحديث بقية...