بلاد الحبشة التاريخية أو الأسطورية يعود تاريخها إلى أكثر من ثلاثة آلاف سنة مضت. وحسب الكتاب المقدس الإثيوبى «كبرا نجشت» فإن ملكة الحبشة ماكيدا، وليست ملكة سبأ اليمنية بلقيس، هى التى تزوجت من النبى سليمان ملك أورشليم، وأنجبت منه الملك منليك والذى جاء من نسله ملوك الحبشة (العائلة السليمانية). وهذا مخالف للرواية القرآنية من أن ملكة سبأ «اليمنية» بلقيس هى التى تزوجت من النبى سليمان بن داوود. عموماً هذا الاعتقاد الإثيوبى الخاص يعطى قدسية لحكام إثيوبيا وسط الشعب الإثيوبى ويعطى إثيوبيا ارتباطاً عضوياً ودائماً بإسرائيل، حتى إن الإمبراطور هيلاسيلاسى، وهو من العائلة السليمانية أيضاً، كان يطلق على نفسه إمبراطور إثيوبيا ويهوذا. وإثيوبيا الحديثة يعود إنشاؤها إلى الملك مينليك الثانى (1889-1913)، وهو من الأسرة السليمانية المقدسة (الأمهرية)، وكان هذا الملك يحظى بدعم وتأييد كبير من الشعب الحبشى. ونجح مينليك الثانى فى توسيع رقعة بلاد الحبشة ومضاعفة مساحتها عدة مرات من خلال ضم العديد من الأقاليم المجاورة مثل عفار وأوجادين الصومالية الإسلامية، وإقليم أوروميا الأفريقى ومعظم شعبه كان يدين بالإسلام، وبعض السهول السودانية وسكانها ذوو أصول عربية مسلمة. وقد تمكن مينليك الثانى من ضم هذه الأقاليم بعد تدهور وضع الإمبراطورية المصرية واحتلال إنجلترا لمصر عام 1882، وثورة الدراويش (المهديين) على الجيش المصرى فى السودان، وانسحاب الجيش المصرى من معظم الأمصار حتى وصل إلى وادى حلفا بشمال السودان. وكانت مصر، قبل الاحتلال البريطانى، تسيطر بالكامل على ساحل البحر الأحمر ومعظم أجزاء الصومال الواقعة على البحر الأحمر، وأريتريا والسودان وجنوب السودان وبعض أجزاء من أوغندا. وقد ضم مينليك الثانى أقاليم الصومال عن طريق صفقات مع الفرنسيين والإنجليز بالتعهد بعدم التعدى على مصالحهما سواء فى السودان البريطانى أو فى جيبوتى الفرنسية، والتعهد أيضاً بعدم التدخل أو دعم دولة على حساب الأخرى فى معركة فينشا الشهيرة فى السودان بين القوات البريطانية والفرنسية. وكانت بريطانياوفرنسا حريصتين على أن تحل إثيوبيا كوريث للإمبراطورية المصرية فى شرق أفريقيا. ونجح مينليك الثانى فى الحصول على دعم فرنسا وروسيا فى حربه مع إيطاليا، مما ساعده فى الانتصار عليها فى معركة العدوة عام 1896، بالرغم من تحالف الجيش الإيطالى مع ابن الإمبراطور الإثيوبى السابق التيجرانى الأصل يوحنا الرابع ومعه الآلاف من الشعب الإريترى. وجدير بالذكر أن الإمبراطور يوحنا الرابع هو الذى كان انتصر على الجيش المصرى عام 1876. وقد هزم الدراويش (المهديين) الملك يوحنا الرابع عندما غزا السودان عام 1889، وكانت فى هذه المعركة نهايته واعتلاء مينليك الثانى للعرش الإثيوبى. وأصبحت إثيوبيا تحت حكم مينليك الثانى، قوة لا يستهان بها فى القرن الأفريقى. وكان مينليك الثانى يستخدم الخطاب السياسى الدينى لكسب تعاطف أوروبا المسيحية، فكان دائماً ما يخاطب الأوروبيين بأن إثيوبيا جزيرة مسيحية يحيط بها المشركون والكافرون أو المسلمون والملحدون من كل جانب. وأكمل مسار مينليك الثانى لتحديث إثيوبيا الإمبراطور هيلاسيلاسى الذى جاء للحكم عام 1930، وأعد دستوراً للبلاد عام 1931 وأدخل البلاد إلى عالم من التجديد والحداثة. وقد حافظت الدولة الإثيوبية على مدى تاريخها على استقلالها باستثناء فترة الاستعمار الإيطالى 1936-1941. وبالرغم من أن الطبقة الحاكمة فى إثيوبيا تنحصر فى عنصرى الأمهرية والتيجراى واللذين يدينان بالمسيحية فإن الأكثرية من الشعب الإثيوبى تدين بالإسلام من سكان أقاليم عفار وأوجادين والأورومو. وهناك انطباع راسخ عند القادة الإثيوبيين أن مصر تحاول دائماً الاتصال ودعم ومساندة مسلمى إثيوبيا لإثارة القلاقل وعدم الاستقرار الداخلى لمنع إثيوبيا من القيام ببناء مشروعاتها على النيل الأزرق. وأيضاً يعتقد القادة الإثيوبيون أن مصر تحاول استخدام إريتريا والصومال للضغط على إثيوبيا لتحقيق نفس الهدف. وكان لإثيوبيا موقف سلبى ومعاد من السد العالى، حيث رحبت بسحب الولاياتالمتحدة لعرض تمويل السد عام 1956، وكان لها أيضاً موقفها المعادى من قضية تأميم قناة السويس والعدوان الثلاثى. فقد وقفت فى مؤتمر لندن الأول، الخاص بتدويل قناة السويس، ضد حق مصر فى السيطرة على القناة وإدارتها، وكانت من الدول المؤيدة لتدويل قناة السويس. واشتركت إثيوبيا فى لجنة منزيس الخماسية التى جاءت لتعرض على مصر نتائج مؤتمر لندن الأول، وشاركت أيضاً فى مؤتمر لندن الثانى الذى كان يهدف إلى تكوين هيئة من مستخدمى القناة لإدارتها. وفى أعقاب الاعتداء الثلاثى على مصر فى نوفمبر 1956، كان موقف إثيوبيا فى الأممالمتحدة سلبياً، فلا يدين الغرب ولا يدعم مصر. وتقدمت إثيوبيا بشكوى رسمية إلى الأممالمتحدة ضد مصر لشروعها فى بناء السد العالى. عموماً تحسنت العلاقات السياسية والتجارية نسبياً بين مصر وإثيوبيا بعد زيارة الإمبراطور هيلاسيلاسى لمصر فى يونيو 1959، وتم أثناء هذه الزيارة مناقشة الخلافات السياسية والمائية بين البلدين. ولكن بعد عقد مصر لاتفاقية 1959 مع السودان، قام الإمبراطور هيلاسيلاسى بفصل الكنيسة الإثيوبية عن الكنيسة المصرية، وذلك بعد ارتباط كنسى زاد على 1600 سنة. عموماً نتذكر زيارة عبدالناصر لأديس أبابا عام 1963 فى المؤتمر التأسيسى لمنظمة الوحدة الأفريقية وإصدار ميثاق المنظمة، وكانت مصر وإثيوبيا من الدول المؤسسة والرائدة فى العمل الأفريقى، ولكن ظلت العلاقات بين الدولتين ما بين الصعود والهبوط فى إطار منافسة سياسية بين أكبر دولتين فى شرق أفريقيا، وما زال هناك خلاف جوهرى من الناحية المائية بين الدولتين، يتمثل فى عدم اعتراف إثيوبيا باتفاقية 1929، لأنها فى رأيها استعمارية، واتفاقية 1959، لأنها لم تكن طرفاً فيها، واتفاقية 1902 التى وقّعها الإمبراطور مينليك الثانى وتعهّد فيها بعدم بناء سدود على النيل الأزرق أو السوباط أو بحيرة تانا الأبعد موافقة السودان المصرى البريطانى حينئذ، ولا أعرف سبب عدم الاعتراف بهذه الاتفاقية إلا ما يشاع من أن إثيوبيا بأن الترجمة الأمهرية للاتفاقية تختلف عن الصياغة الإنجليزية. وحتى اتفاقية 1993 بين مصر وإثيوبيا التى وقّعها فى القاهرة ميليس زيناوى، وكذلك بيان 2014 بين السيسى وديسالين فكلاهما ينص على التزام إثيوبيا بمبدأ عدم الإضرار، ولكن مبدأ عدم الإضرار لا يصلح تطبيقه إلا إذا اعترف الطرفان بالحصص المائية لكل منهما. وطبعاً إثيوبيا ترفض الاعتراف بحصة مصر المائية، ولكن نرجو ونتمنى أن تشهد الفترة المقبلة انفراجة تحل شفرات هذه المشكلات التاريخية المتوارثة.