تمهيدٌ: قبل شهور دعانى الصديق مجدى الجلاد، رئيس تحرير «الوطن»، للكتابة الأسبوعية فى الجريدة (مثلما كان الحالُ لعدة سنواتٍ فى «المصرى اليوم»، أيام كان يرأس تحريرها)، فاعتذرت منه مرتين، وفى الثالثة بدت لى فكرةٌ جامحةٌ فوافقت من فورى. كانت الفكرة التى سطعت بداخلى تقول ما مفاده إن حالات التحول السريعة التى تمر بها بلادنا خلال هذه الفترة تقتضى الاهتمام باللغة.. لماذا؟ لأن الناس إذا غابت عنها معانى المفردات ودلالات اللغة التى يتحدَّثون بها ويعبِّرون عن أغراضهم (بحسب تعريف «ابن جِنِّى» لمعنى كلمة لغة)، فلن يصلوا إلى شىء! وسيكون المجتمع أشبه بمستشفى مجانين لا أسوار له، لا يتواصل فيه الناس على نحوٍ رشيدٍ، ولا يمكنهم إتقان أى عملٍ يسعون إليه. وهذا اعتقادٌ يصل عندى إلى حدود اليقين، وقاعدة عقلية أساسية، ومبدأ ذهنى يقول بحسم: إذا لم يتقن الناس الكلام الحالى بينهم، فلن يتقنوا أى فعل يقومون به. والأدبُ هو المرآة الناصعة لأى لغةٍ، وهو جلاءُ المعانى فى الأذهان.. ولذلك، فالذين يظنون أن الكتابة الأدبية (الرواية، الشعر، القصة القصيرة، العبارات الرمزية) هى نوعٌ من الترف الفكرى الساعى فقط للاستمتاع والتذوُّق، هم بالقطع مخطئون، فالأدبُ هو الجناح المُحلِّق باللغة فى سموات البلاغة، وبه يرتقى فكر الجماعة ويعلو عقلها الجمعى، بقدر ما تعلو المفردات الجارية على الألسنة، وبمقدار ما تُحلِّق بهم اللغة التى هى كما قال الفلاسفة «رسمُ العالم فى الأذهان». وأشكال الكتابة الأدبية عديدةٌ، ومن أهمها القصص القصير الذى كانت الثقافة العربية رائدة فيه، قبل قرونٍ طوال من ظهوره فى الأدب الأوروبى. فمنذ أكثر من ألف عام، كتب الفيلسوف العبقرى أبوعلى الحسين بن سينا (الشيخ الرئيس) عدداً من القصص القصيرة، منها: حىُّ بن يقظان، سلامان وأبسال، رسالة العشق، وكتب شهاب الدين السُّهروردى (المقتول) من بعده بقرنين من الزمان: الغربة الغربية، صفير العنقاء، حفيف أجنحة جبرائيل، وكتب «ابنُ النفيس»: فاضل بن ناطق. ناهيك عن نص «ابن طفيل» البديع «حى بن يقظان»، وعن سلسلة القصص القصيرة المتصلة المنفصلة «ألف ليلة وليلة»، وعن أعمال أدبية أخرى فى التراث العربى لم يُكتب لها الذيوع والانتشار مثلما حدث مع الأمثلة السابقة. وكالمعتاد فى ثقافتنا العربية المعاصرة، كانت «القصة القصيرة» فى بلادنا صدى لما وصلنا من الآداب الأجنبية، خصوصاً الأدب الروسى البديع المتمثل فى أعمال جوجول وبوشكين. ولم يفكِّر أدباؤنا فى تأسيس تيار أدبى فى مجال القصة القصيرة يكون متواصلاً مع الإبداعات القصصية فى تراثنا العربى القديم، ومع ذلك، تطوَّرت الكتابة الأدبية فى هذا المجال حتى وصلت إلى مكانة عالية مع أعمال «يوسف إدريس»، لكن القصة القصيرة تراجعت بعد رحيله، وترهَّلت، وهُجرت حتى كادت تختفى. من هنا، كانت فكرتى للكتابة فى «الوطن» هى إحياء هذا اللون الأدبى من خلال القصص القصيرات التى نشرتها هنا طيلة الأشهر الماضية، وأعكف حالياً على إعادة كتابة بعضها وتنقيح بقيتها، كى تُنشر فى ثوبها النهائى فى كتابٍ أرجو أن يصدر قريباً. ولهذا، وللسبب الآخر الذى سأذكره بعد قليل، فسوف أتوقَّفُ حيناً عن كتابة القصة القصيرة ونشرها حتى حين. تمهيدٌ ثانٍ: قبل فترة، سألتُ عشرات الآلاف المتابعين لصفحتى على الفيس بوك عن معنى كلمة «داعش»، وما يعرفونه عن «الداعشية»، فلم يدرك معظمهم ما أسأل عنه، وظنَّ كثيرون أن «داعش» هو اسم شخصٍ لا يعيش فى هذا الزمان! والآن، يعرف كثير من الناس معنى «داعش» وأفعالها الشنيعة فى سورياوالعراق، بعدما انتشرت الأخبار عنهم فى وسائل الإعلام (الأجنبية أولاً، ثم العربية!)، وراجت على صفحات التواصل الاجتماعى والمواقع الإلكترونية مقاطع فظيعة للداعشيين وهم يهدمون آثار العراق ويدمِّرونها بالمدافع، مثلما دمَّرت «طالبان» من قبل تماثيل بوذا العملاقة الأثرية فى بلدة «باميان» الأفغانية. والناس فى مصر يغلب على أغلبهم حالُ «السبهللة»، وبينما هم منهمكون بشدةٍ واهتمامٍ عظيم فى ملاحقة مسلسلات شهر رمضان الطافحة بالتفاهة، كان مسلسل الهول الداعشى يتتابع فى شرق سورياوجنوبالعراق، ويتسع مداره بشكلٍ لافتٍ لنظر الذين لا ينظرون طيلة الوقت فى شاشات الدراما التليفزيونية، التى بدت هذا العام كأنها محاولة إلهاء خطيرة النتائج، تتم بقصدٍ وخُبث أو بخيبةٍ وحمق. فُجع الناس بما عرفوه من أفعال «داعش»: تهجير المسيحيين من جنوبالعراق، وهم الذين سكنوا هناك من قبل ظهور الإسلام، هدم مقامات الأنبياء القدماء، دون أى اعتبارٍ للقيمة الدينية أو الأثرية لهذه المبانى العتيقة، دعوة النساء للختان، ثم المبادرة الداعشية لتقطيع فروج الرُّضع من الفتيات، تهديد المخالفين لهم ممن وقعوا تحت سيطرتهم كى يقدِّموا نساءهم لأوباش «داعش» تنفيذاً لما يُسمى «جهاد النكاح»، قطع يد سارق علانية وعلى مرأى من الناس والأطفال فى «عرصة» عامة، باستعمال ساطورٍ غير مسنون، إحياء ما يتوهمون أنه «سُنة» نبوية، مثل قولهم: الذبح على الملأ فريضةٌ إسلامية غائبة يجب إحياؤها، الزعم بأن سوف يحاربون إسرائيل يوماً، ولكنهم أولاً سوف يقيمون الخلافة الإسلامية فى سورياوالعراق تحت الاسم المختصر «داعش»، والخلافة الإسلامية فى مصر وليبيا تحت اسم «دامل»، وكانت آخر فتاواهم المختلَّة: لا بد من هدم كعبة مكة لأنها كانت يوماً بيتاً للأوثان! وفى غمرة انشغال الناس فى مصر بارتفاع أسعار السجائر والخبز غير المدعوم، وفى أوج اهتمامهم العظيم بسيل المسلسلات الرمضانية، وفى مخاضة المآسى الفلسطينية بعد الرد الإسرائيلى الوحشى على أفعال «حماس» الوحشية ضد ثلاثة إسرائيليين خُطفوا وقُتلوا فى توقيت مريب، فى هذا الخضم المريع انبرى كثيرون من هؤلاء الذين سميتهم قبل عامين «الكتائب الإلكترونية الموجَّهة» فى التشويش على الأخبار الداعشية، والتهوين منها، والزعم بأنها أخبار غير صادقة ومُفبركة يبثُّها الإعلام المصرى لتخويف الناس من الإسلاميين، لصرفهم عن الهدف الأسمى الذى يسمى فى أذهانهم العليلة «عودة الشرعية»! كيف إذن ستكون «القصة القصيرة» هى شاغلى الذى أشغل به بعض الناس؟ وكيف يجوز للمثقف، الذى هو مستطلع الآتى كزرقاء اليمامة، أن ينصرف خاطره عن هذا الهول الذى يحيط بمصر ويحاذيها من الحدود الغربية (الليبية) وربما يأتى مستقبلاً من حيث لا نتوقع؟ وكيف نتراخى حتى يجرفنا التيار، فنصل إلى نقطة اللاعودة التى لا ينفع معها الندم والعويل؟ لهذا، كان لا بد أن نوقف «القصص» إلى حينٍ، حتى نهتم بهذا «الواقع» الخطير. تمهيدٌ ثالث: «داعش»، «دامل»، «أنصار الشريعة»، «جبهة النصرة»، «التكفير والهجرة»، «الجماعة الإسلامية»، «أنصار بيت المقدس»، «جماعة مُحبى الآلام»، «جنود الرب» وغيرها، هى أسماء متعدِّدةٌ تعبر عن شىء واحد فى جوهره، هذا الشىء هو الحالة الحيوانية البدائية التى عاش فيها البشر قرابة مليون سنة على هذه الأرض، ثم حجبتها الحضارة خلال السبعة آلاف سنة الماضية بقشرةٍ رقيقة قامت على أسس حضارية متوارثة، منها فكرة «الضمير» التى اخترعتها مصر القديمة مثلما اخترعت مفهوم «الحب» وغيره من المعانى الإنسانية الراقية التى توالت عبر الأجيال، حتى ظنَّ كثيرٌ من الناس أنها «فطرة» فى الإنسان.. ومنها الفنون التى هزم بها الإنسان إحساسه بالفناء، وسعى من خلالها للخلود (أقصد هنا الفن الرفيع، لا الهنك والرنك الذى نسميه اليوم فى بلادنا: فن)، وقد عملت هذه الفنون على الارتقاء بالنفس الإنسانية عن المستوى البدائى الأول، الأكثر عراقة وكموناً فى النفوس بحكم امتداده الطويل، إلى المستوى اللائق بحياة الإنسان المعاصر، أعنى «الإنسان» اللائق بصفة الإنسانية. غير أن بعض الحيوانات البشرية المتهيِّجة هياج البشر الفطرى فى أزمنة ما قبل الحضارة يسعون إلى استعادة هذه المتع المندثرة: الفتك، الانتهاك، القسوة المطلقة، الاستعلاء بالعضلات وليس بالعقل، إبادة المختلف ثم إفناء الذات بالنزوع الانتحارى، إزاحة الأنوثة التى كانت مقدسة فصارت مُدنَّسة، الاستيلاء على كل ما يمكن الاستيلاء عليه بغرض إرواء الشهوة الهمجية للذكور. ولا شىء يعين على ذلك ويمهِّد له مثل ادِّعاء اليقين التام واستبعاد أى احتمال للخطأ، وهو الغاية التى يجعلها «الدين» ميسورةً لهم، الدين الذى يفهمونه هم (وأغلبهم جهلاء)، ويقتلون به ويفتكون بالمخالف لهم، وبه يفتكون بأنفسهم فى نهاية المطاف لإشباع الشهوات البدائية التى لم تستطع القشرة الحضارية أن تجمحها فى نفوس المتخلِّفين من الناس.