■ مضى شهر رمضان المعظم بعد أن أسعد الجميع.. لقد تفكرت طويلاً فى عظمة هذا الشهر.. شعرت وكأن الله أرسله ليسعد الناس جميعاً.. فباعة الملابس والأحذية يسعدون به وينتظرونه بلهف وشوق لأنهم يربحون فيه أضعاف غيره.. كل محلات البقالة والسوبر ماركت تظل فيه ساهرة حتى الصباح ولا تتوقف عن البيع.. وتجهز الملايين من شنط رمضان. ■ رمضان السعيد يسعد الجميع حتى الأيتام والفقراء والأرامل يسعدون فيه.. بنك الطعام وزع ملايين العبوات وكذلك «الأورمان ومصر الخير والجمعية الشرعية» وغيرها من الجمعيات الرسمية ومن أهل الخير المنفردين وكل ذلك أسعد آلاف الأسر الفقيرة.. رأيت عشرات الأطفال الفقراء ينزلون من باصات أمام متجر كبير للملابس.. يدخل الأطفال إلى المتجر ليختاروا ملابسهم.. تأملت وجوه الأطفال الصفراء وملابسهم الرثة فأدركت أنهم لم يلبسوا ملابس جديدة منذ العام الماضى.. تأملت بعضهم وهو يخرج من المتجر فرحاً بملابسه الجديدة. ■ فى اليوم التالى سألت صديقى المدير الإدارى للمتجر معبراً عن سرورى بما شاهدته بالأمس.. قال: كل عام تأتى إلينا مجموعات من دور الأيتام أو الأطفال الفقراء من القرى.. إننا نساهم معهم بنسبة جيدة تيسيراً عليهم ومشاركة للمسئولين عنهم. ■ شهر رمضان لا يسعد أهل مصر وحدهم ولكن يسعد العالم الإسلامى كله.. ويسعدهم أيضاً وهم يجتمعون بالملايين معتمرين فى الحرم المكى والمدنى فأحلى الأيام هى أيام العمرة فى رمضان.. صفاء ونقاء وعبادة وحب وتآلف وتواد.. قلوب ترفرف فى السماء لا تعرف الضغينة ولا الحقد ولا الصراع السياسى. ■ لا يسعد المعتمرون وحدهم ولكن كل شركات الطيران والسياحة وكل التجار فى مكة والمدينة يسعدون أيضاً.. بعضهم كان يشكو الكساد.. فإذا بشهر رمضان المعظم يزيل كسادهم ويحنو على أسرهم ويضمد جراحهم الروحية والاقتصادية. ■ قلت لنفسى: لا بد أن لهذا الشهر أسراراً أخرى أكبر من ذلك.. إنها بركة الطاعة والعبادة والقرب من الله.. إنها تنعكس على الناس جميعاً.. حتى سائق التاكسى الذى كان يشكو من قلة الزبائن قبل رمضان.. إذا به لا يجد وقتاً للإفطار أو السحور من كثرة الزبائن. ■ لا أجد تفسيراً للسعادة الكبيرة التى تغمر الأطفال.. فكلما مررت بشارع فى حى شعبى أو راقٍ إلا وأجدهم يلعبون ويمرحون حتى الساعات الأخيرة من الليل.. النساء تظل فى المسجد تصلى القيام ثم التهجد ثم تتسحر فى المسجد وتصلى الفجر ولا تترك المسجد إلا فى الشروق. ■ دعوات صادقة حارة يعززها بكاء ونحيب وتوبة واستغفار من قلوب هزها الشوق إلى المحبوب الأعظم سبحانه وتعالى.. تريد أن تتوب عن انشغالها بالدنيا.. وانغماسها فى الملذات الحرام.. أو انشغالها عن المحبوب الأعظم الذى منحها كل شىء.. ولم يطلب منها شيئاً سوى عبادته سبحانه وشكره.. ولكن الكثير من عباده ينهلون من نعمه ويضنون عليه سبحانه وعلى أنفسهم بعبادة ما أسهلها وذكر وشكر ما أيسره.. ولكن شهر رمضان يأبى إلا أن يصلح بين الخلق والخالق والعبد وربه. ■ يتزاحم الأطفال على المساجد فى قيام الليل، بعضهم يذهب ليلعب أمام المسجد وأمه تصلى داخله.. وبعضهم يلعب على السلم وبعضهم ينام وهو راكع أو ساجد.. ولكنهم يعتبرونها فسحة يومية يرغبون فيها كل يوم. ■ حتى المسيحيين المصريين يوقرون رمضان.. لا يأكلون أمام المسلمين فى نهار رمضان حياء وأدباً.. وبعض التجار المسيحيين يخفضون ثمن الشنط الرمضانية أو الملابس التى ستهدى للأيتام والفقراء.. وبعضهم يقول دائماً: شهر رمضان شهر جميل ونحن نحبه.. الجميع يرزق فى رمضان.. والكل يرزق الكل من رزق الله. ■ كان هناك مجموعة من التجار المسيحيين والمسلمين فى منطقة المنشية بالإسكندرية يقيمون مائدة رحمن.. البعض راهن على اختفاء موائد الرحمن هذا العام.. ولكننى وجدتها فى معظم أماكنها ومعظمها كتب عليها «مائدة الرحمن لضيوف الرحمن» استحى كل من يقوم عليها أن يكتب اسمه.. أو أنها خاصة بفلان أو من مال فلان.. هى من رزق الرحمن لضيوف الرحمن الصائمين.. لم يكتب أنها للفقراء.. جمع فى العنوان بين الإخلاص والحياء. ■ الإخلاص هو سر هذا الدين العظيم.. هذا السر هو الذى جعل مثل أبى بكر يزن إيمانه إيمان الأمة كلها.. فما فاق أبوبكر غيره بكثرة صلاة ولا صيام ولا عبادة ولكن بسر وقر فى قلبه ألا وهو الإخلاص. ■ آه.. ما أصعب الإخلاص.. إنه العملة النادرة التى غابت اليوم عند دنيا المسلمين.. فأصبحوا غثاء .. وأصبح عملهم الكثير هباء .. آه.. وآه.. من استحضار الإخلاص. ■ مضى رمضان بعد أن أسعد الجميع وأرضى الجميع ولكنه مضى غاضباً من فريقين: ■ من الجيش الإسرائيلى الذى قام بأكبر مذبحة فى هذا الشهر العظيم وحوّل حياة أهل غزة الصائمين إلى جحيم.. قتل النساء.. والأطفال والشيوخ.. دمر البيوت والمدارس والمساجد.. أتى على الأخضر واليابس.. قارب على الألف قتيل.. والأربعة آلاف جريح. ■ هل هذا جيش دولة أم عصابة تحترف القتل ولا تحترم ضميراً ولا قانوناً دولياً.. وإذا كان قد قُتل لهم ثلاثة من المدنيين المستوطنين.. فهل تقتل أمامهم المئات وتصيب الآلاف. ■ أما الفريق الثانى الذى أغضب رمضان فهم أولئك التكفيريون الذين يصرون كل عام على تلويث ثوب رمضان والإسلام الأبيض بقتل المسلمين.. قتلوا منذ عدة أعوام 16 جندياً فى رفح.. ولم يتركوا جرحاهم حتى أجهزوا عليهم فى وحشية نادرة.. وفى شهر رمضان هذا فجعوا مصر كلها بقتل 22 جندياً لم يرحموا صيامهم أو صلاتهم أو عبادتهم.. تركوا غزة تحترق.. ليقتلوا أبناء وطنهم ودينهم. ■ لقد صدق فيهم حقاً قول النبى صلى الله عليه وسلم «يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان».. إنهم يقاتلون فى المكان الخطأ والزمان الخطأ وبالطريقة الخطأ.