اجتاحت داعش شمال العراق، وانهار الجيش العراقى أمامها. انسحب الجيش العراقى من الشمال، فحلت محله قوات البيشمركة الكردية. هددت داعش بالزحف على بغداد، فانتشرت الميليشيات المسلحة فى المدينة، ودعا المرجع الشيعى على السيستانى المواطنين لحمل السلاح لمواجهتها. إنها الحرب بين داعش السنية المتطرفة وجيش القوميين الأكراد وشيعة العراق ممثلين فى جيش أصبح طائفياً وميليشيات ما زالت تحتفظ بسلاحها. هى إذن الحرب الأهلية التى تهدد بانهيار العراق وتحوله إلى دويلات متناحرة. هذا هو ما حل بالعراق بعد أحد عشر عاماً من الغزو الأمريكى. لا أنفى مسئولية صدام حسين عن جعل العراق فريسة سهلة للغزو الخارجى والاحتراب الأهلى، لكن المؤكد أن الغزو الأمريكى للعراق لم يؤد سوى إلى زيادة الأمور سوءاً، فما كان محتملاً بعد زمن طويل تحت حكم صدام، أصبح مرجحاً وفى قريب الأيام بعد الغزو الأمريكى. فى مذكراتها التى تم نشرها قبل أيام قليلة، حكت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلارى كلينتون عن الدعم الذى قدمته عندما كانت عضواً فى الكونجرس فى عام 2002 لغزو الولاياتالمتحدةالأمريكية للعراق. قالت كلينتون «اعتقدت أننى أتصرف عن حسن نية وأننى اتخذت أفضل قرار ممكن انطلاقاً من المعلومات المتوفرة لدى. لكننى أخطأت بكل بساطة». هكذا انتهى الأمر بالنسبة لهيلارى كلينتون وغيرها آلاف المسئولين وأعضاء الكونجرس والإعلاميين الأمريكيين الذين أيدوا غزو العراق. اعترفت «كلينتون» بالخطأ، لكن أمريكا الدولة لم تفعل الشىء نفسه. الكارثة التى حلت بالعراق فى رأى الوزيرة الأمريكية هى مجرد خطأ شخصى لم يعتذر عنه أحد، لا السيدة كلينتون ولا الحكومة الأمريكية، فيما العراقيون يواصلون دفع الثمن الباهظ من حياتهم وأمنهم. رغم هذا فإن الأمريكيين يكررون الأخطاء نفسها دون كلل. فى سوريا سحب الأمريكيون الشرعية عن الدكتاتور بشار الأسد فشجعوا المعارضة السورية على حرق مراكب العودة للبحث عن حل وسط مع النظام القمعى، متوهمين أن واشنطن ستقف إلى جانبهم حتى ينجحوا فى إسقاطه. الموقف الأمريكى شجع دولاً فى المنطقة لاتخاذ الموقف نفسه، فقامت دول عربية بطرد سفراء النظام السورى، وقامت الجامعة العربية بسحب مقعد سوريا من نظام دمشق، فامتنع على العرب القيام بدور الوساطة بين النظام والمعارضة. إلا أن واشنطن امتنعت عن دعم المعارضة السورية المسلحة، فطال أمد الحرب، وسقط المزيد من الضحايا، وأصبح ما يقرب من نصف الشعب السورى من اللاجئين داخل بلادهم وخارجها، وكادت البلاد تقع فى يد جماعات التطرف الإرهابية المنتشرة عبر الحدود العراقية السورية، فما يحدث فى العراق ليس مفصولاً تماماً عما يحدث فى سوريا. وبينما نجح النظام فى دمشق فى الحفاظ على بقائه بفضل الدعم غير المحدود من جانب طهران وموسكو، وجدت المعارضة السورية نفسها فى موقف لا تحسد عليه، فلا هى قادرة على حسم المعركة عسكرياً، ولا هى قادرة على التفاوض مع النظام بعد أن تم حرق كل سفن العودة، والنتيجة هى أن الوطن السورى أوشك على الضياع، واللوم كل اللوم يقع على عاتق الولاياتالمتحدة التى قالت كلاماً لم تقصده، وقدمت وعوداً لم تعنها. فى ليبيا انتفض الناس ضد القذافى واستخدم الأخير كل الأسلحة الموجودة فى ترسانته لقمع ثورة الشعب. تدخل حلف الناتو الذى تقوده واشنطن لاستكمال مهمة إسقاط النظام الذى عجز الثوار عن إسقاطه بقدراتهم الذاتية. راح القذافى بكل مصائبه لتسقط ليبيا كلها فى فوضى عارمة تتهددها مخاطر الإرهاب والحرب الأهلية والتقسيم. وعندما هب الشعب المصرى ضد حسنى مبارك لم يستغرق الأمر من الأمريكيين سوى أيام قليلة لكى يطالبوا مبارك بالرحيل. انهارت شرعية مبارك الخارجية بعد أن انهارت شرعيته الداخلية، فرحل دون ترتيب مناسب للمرحلة التالية. دخلت مصر فى طريق مجهول، وعزم الأمريكيون على تسليم البلاد لحكم الإخوان، ولولا يقظة الجيش وقائده عبدالفتاح السيسى ما كان لمصر أن تخرج أبداً من النفق الذى دخلته. لا أحب الخوض فى أحاديث المؤامرة، ولكنى سأتحدث بدلاً من ذلك عن غطرسة القوة التى تجعل القوى الكبرى تظن فى نفسها القدرة على صياغة مصائر الشعوب، فيتدخلون ويخطئون وتدفع الشعوب الثمن. قضية السلطة هى أخطر قضايا البنيان السياسى للدول وأكثرها حساسية، وللتلاعب بها عواقب وخيمة. قد تكون السلطة استبدادية وفاسدة، لكن المشكلة هى أن السلطة الديمقراطية العادلة ليست هى البديل الوحيد الممكن لسلطة الاستبداد والفساد، فقد يسقط المستبد الفاسد ليحل محله مستبد آخر أسوأ منه، أو ليفشل المجتمع المنقسم فى إنتاج سلطة جديدة قادرة على حفظ البلاد والعباد، فتدخل الأوطان فى الفوضى. السلطة حقيقة حساسة ومراوغة، والتلاعب بها أو التصادم معها مغامرة قد تؤدى إلى نتائج رائعة مبهرة أو إلى كوارث لا حل لها. وفى كل الأحوال فإن الشعوب هى من تدفع تكلفة المغامرات الفاشلة أو تفوز بجائزة النجاح. لهذا فإنه عندما يصل الأمر لقضية السلطة فإن الأمر كله يجب تركه فى يد الشعوب لتتحمل نتيجة اختياراتها، وما على المتدخلين المتغطرسين من الخارج سوى الامتناع عن التدخل لأنهم ببساطة سيهربون إلى بلادهم عند أول أزمة تواجههم، مثلما فر الأمريكيون من العراق ويفرون الآن من أفغانستان تاركين الشعوب هناك تواجه مصيرها. والخلاصة هى أنه رغم كل الحجج الأخلاقية التى تروج للحق فى التدخل فى شئون الدول دفاعاً عن الحقوق والحريات، فإن الممارسة الواقعية تقوض أى أساس أخلاقى للتدخل الخارجى، إذ لا أساس أخلاقياً للقيام بتصرفات يتحمل الآخرون تكلفة فشلها.