ليس هناك خلاف بين المحللين السياسيين على أن ثورة 25 يناير أدت إلى انفجار سياسى وانفجار اجتماعى فى نفس الوقت. أما الانفجار السياسى فيجد تفسيره فى أنه رد فعل لكبت طويل المدى عانت منه الجماهير فى ظل النظام السلطوى السابق. ففى هذا النظام طبقت استراتيجيات سياسية قمعية تهدف إلى منع الناس من التعبير الحر الطليق عن أنفسهم، وكذلك تمت محاصرة الأحزاب السياسية ومنعها من الاتصال بالجماهير وذلك بحصر مؤتمراتها فى مقراتها، وفرضت الرقابة غير المباشرة على الصحافة خصوصاً أن الحزب الوطنى الديمقراطى هو الذى تحكم سنوات طويلة فى تعيين رؤساء تحرير الصحف القومية، بل إنه فى خطوة بدت مستفزة غاية الاستفزاز لجموع الصحفيين ألحق كافة رؤساء تحرير الصحف القومية بلجنة السياسات كأنهم موظفون فى الحزب، وعينوا لكى يدافعوا عن سياساته المنحرفة. وهذه السياسات كانت تهدف إلى إثراء القلة من أهل السلطة ورجال الأعمال على حساب باقى فئات الشعب التى كانت تكافح حتى تعيش فى مستوى الحياة الكريمة، بالرغم من التضخم المستمر وتدنى الأجور والمرتبات. ولذلك كان طبيعياً أن يحدث انفجار سياسى بعد الثورة. وهذا الانفجار يتمثل فى تشكيل أكثر من ثلاثمائة ائتلاف ثورى، ما تسبب فى تشرذم صفوف الثوار وانعدام فعاليتهم السياسية، بالإضافة إلى تشكيل أحزاب جديدة أغلبها كيانات وهمية، لا علاقة لمن أنشأوها بالشارع وليس لهم أى وزن سياسى. غير أن الانفجار السياسى ظهرت خطورته خارج الإطار الديمقراطى، ونعنى أن تشكيل مئات الأحزاب بالرغم من أنه ظاهرة مرضية لا يمثل خطورة حالّة على الديمقراطية، ولكن الخطورة بدت فى تنظيم مظاهرات ومليونيات فوضوية، ترفع شعارات زاعقة يستحيل تحقيقها فى الأجل القصير، وهذه الشعارات كانت ترفع مطالب يراد تحقيقها على الفور ومنها قوانين الحد الأدنى والحد الأعلى للأجور وهى مطالب شرعية فى ذاتها. غير أن المطالب الفئوية لعديد من الفئات العمالية وموظفى الدولة تعدت حد اللامعقول، لأن أغلب هذه المطالب ليست سوى مزايدات على الدولة، ومحاولات يائسة لابتزاز أجهزتها بالمبالغة الشديدة. ولو استجابت الدولة لكل هذه المطالب التى انفجرت دفعة واحدة لكان جديراً بأن تعلن إفلاسها، لأن مجموع المطالبات يزيد على مليارات الجنيهات، وذلك فى الوقت الذى تعانى فيه الميزانية من عجز مزمن، بالإضافة إلى خدمة الدين التى وصلت إلى معدلات مرتفعة للغاية. ومن ناحية أخرى حدث انفجار اجتماعى تمثل فى عدم اعتراف عديد من الفئات بالتراتبية الاجتماعية على أساس شعار غوغائى تم رفعه مبناه «مفيش حد أحسن من حد»! وفى هذا المجال رأينا الموظفين الإداريين فى بعض الجامعات يطالبون بالمساواة فى المرتبات مع أساتذة الجامعة الذين عانوا غبناً شديداً طوال السنين الماضية، ما دفع بالدولة إلى رفع مرتباتهم وبشروط قاسية فى مجال العمل الأكاديمى. والسؤال هنا كيف يطالب هؤلاء الإداريون بالتساوى مع أساتذة الجامعة بالرغم من الاختلاف الكيفى فى التأهيل العلمى لكل فئة من هذه الفئات؟ ومن قال إن الموظف الإدارى الذى لم يحصل إلا على مؤهل متوسط أو عالٍ يمكن أن يتساوى مع الأستاذ الذى مر بمراحل شاقة فى الترقى فى ضوء إنتاجه العلمى؟ وأمثلة أخرى على هذا الانفجار الاجتماعى مطالبات موظفى الشهر العقارى بأن يعتبروا هيئة قضائية كباقى الهيئات القضائية، وأيضاً مطالباتهم بأن تتساوى أجورهم مع أجور الخبراء، والأسوأ من كل ذلك أنهم هددوا بإغلاق مكاتب الشهر العقارى بالجنازير حتى ترضخ الدولة لمطالبهم غير المشروعة. وهناك أمثلة لا حصر لها على المطالب غير المعقولة التى ترفعها عديد من الفئات، وآخرها تهديد المدرسين بإغلاق المدارس لو لم يستجب إلى مطالبهم، وقد كان وزير التعليم حاسماً حقاً حين قرر إحالة المدرسين الذين يلجأون إلى إغلاق المدارس إلى المحاكمة الفورية. ولو تابعنا إضراب المضيفين فى مطار القاهرة الذى حدث مؤخراً والاضطراب الشديد الذى أحدثه هذا الإضراب فى حركة السفر وإلغاء عشرات الرحلات الدولية ما تسبب فى خسائر تقدر بالملايين، لأدركنا أن هذه الإضرابات لا تمت إلى الديمقراطية بصلة، بل إنها تمثل الفوضى العارمة فى أقبح صورها، لأن فيها اعتداء على حقوق المواطنين، وأحياناً يتم الاعتداء على الممتلكات العامة والخاصة. ونحن هنا لا نبرئ صفحة الحكومة بالكامل لأنها لم تستطع حتى الآن أن تؤسس أجهزة إدارية تتمتع بالكفاءة والقدرة على الإنجاز تتخصص فى التفاوض مع المضربين والمحتجين. فى كل بلاد العالم تحدث مظاهرات ومطالبات فئوية، ولكن فى الدول المتقدمة هناك أولاً نقابات قوية منظمة تحكم حركة المطالب ولا تتبنى مطالب تعجيزية لا يمكن للدولة الوفاء بها، بالإضافة إلى وجود تراث إدارى راسخ يسمح لأجهزة الدولة بالتفاوض المثمر الفعال مع المحتجين. ومن ناحية أخرى لا يتم التسامح إطلاقاً مع المظاهرات الغوغائية أو الاعتصامات الفوضوية التى يتم فيها قطع الطرق أو نصب الخيام فى الشوارع ما يعطل حركة الناس، وذلك لأن القانون يطبق بكل صرامة على من يخرجون عليه. أين نحن من هذا الوضع الذى يسمح للناس أن تتظاهر ولكن وفقاً للقانون، وأن ترفع مطالبها ولكن فى حدود المعقول؟ مصر تمر بمرحلة فوضى عارمة تشارك تيارات سياسية متعددة، ومنظمات مهنية فى إشعالها، وفى ذلك تعويق صريح لمسيرة الديمقراطية المتعثرة التى تمر بها مصر المحروسة.