كان العلامة الأديب الكبير محمود محمد شاكر، رحمه الله، صاحب عناية فائقة بشاعر العربية الأكبر «المتنبى»، حتى حفظ ديوانه، وعايشه، وصاحَبَ أنفاسه، وتتبع أخباره، وغاص فى عقله وشخصيته وحياته، وسبح وحلَّقَ فى أسلوبه وتراكيبه وطرائق تعبيره، وهام مع طموحات «المتنبى» فى المجد والرياسة، وأمعن فى شروح ديوانه، وأمضى فى ذلك نحو نصف قرن من العمر، وكتب عنه عدة كتب، لكنه وجد فى سبيل ذلك مرارات وآلاماً، فكانت نتيجة صحبة ستين سنة أن ناء بآلام صحبة «المتنبى»، حتى كتب مقالاً عنوانه: «المتنبى.. ليتنى ما عرفته». وعلى عكس ذلك تماما، فإنى لم أتشرف بمعرفة باسم صبرى، ولم أسعد بلقائه حال حياته، حتى فوجئت برحيله المباغت، ووفاته المفاجئة، وتابعت ردود فعل مختلف الشخصيات، والأطياف الوطنية، والتيارات الشبابية، على اختلاف المشارب والتوجهات والأذواق والانتماءات، ورأيت ثناء الجميع على إنسانيته، ووطنيته، وخلقه الرفيع، فاندهشت لهذه الشخصية السامية، التى حظيت بهذا الاتفاق والمحبة، فشرعت أقرأ عنه، وقرأت بعض مقالاته، فكم امتلأت نفسى بالحسرة والألم، على أننى حُرمت من معرفة هذه الشخصية الإنسانية النبيلة، الرفيعة القدر، وتألمت لأنى لم أتمكن من معرفته وصداقته. ثم كانت مفاجأتى فجر أمس أكبر، إذ وجدت تغريدة قديمة على صفحته، رحمه الله، على «تويتر»، نقل فيها تعليقاً قديماً للفقير، كنت قد علقت به قبل سنوات على نزاع بين بعض الشخصيات، فقلت: «إنما جزاء من عصى الله فينا، أن نطيع الله فيه»، فكتب، رحمه الله، على صفحته بتاريخ 30 أكتوبر سنة 2011م ما نصه: («وإنما جزاء من عصى الله فينا أن نطيع الله فيه» الشيخ أسامة السيد الأزهرى فى يوم وقفة نصرة المنهج الأزهرى)، فانهمرت دموعى على الفور، وجعلت أردد فى نفسى: «رحمك الله يا باسم، ليتنى عرفتك»، وعلمت أن صداقةً قديمةً قد انعقدت بيننا وإن لم تجتمع الأجساد، وأنه قد استوقفته، رحمه الله، تلك الكلمة الأخلاقية المتسامية، لأنها لمست فى نفسه طبعاً نقياً، وجوهراً شفافاً، يهفو إلى كل ملمح سمو ونبل. وقد دعوت له كثيراً، أن يرحمه الله تعالى بواسع رحمته، وأن يرفع فى الجنة درجته، وأقول هنا أيضاً: اللهم إن عبدك، المفتقر إلى رحمتك، النازل بساحة كرمك وجودك، المؤمل فى مغفرتك ورضوانك، عبدك باسم صبرى، قد أوى إليك، ونزل برحاب كرمك، فأكرم نزله، ووسع مدخله، واغفر له، وارحمه، وأسكنه مع السابقين أعلى فراديس الجنان، وألحقنا به مع تمام اللطف والعافية، وارزقنا وإياه صحبة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً. كما أننى أتقدم إلى أسرته الكريمة، وكل أصدقائه وأحبابه، بخالص المواساة والعزاء، وأشاطرهم أحزانهم، وأدعو لهم بالصبر والسكينة، وأعتذر عن تأخر رثائى، وعدم المسارعة فى تقديم عزائى، وأخبركم جميعاً بأنه ما مات من أبقى بعده أطيب الذكر، وأرفع الثناء، وقد تذكرت فى أخلاق باسم صبرى وإنسانيته أبيات أمير الشعراء أحمد شوقى، رحمه الله، إذ يقول: وخُذْ لك زادين، من: سيرةٍ *** ومن عملٍ صالحٍ يُدَّخَرْ وكُنْ فى الطريق عفيفَ الخُطا *** شريفَ السَّماع، كريم النظرْ وكُنْ رجلاً إنْ أَتَوا بعده *** يقولون: مَرَّ، وهذا الأثرْ وختاماً أقول: إن باسم صبرى أنموذج رفيع لشخصية الإنسان المصرى الأصيل النبيل، تلك الشخصية التى تتعرض الآن لذوبان وجفاف وتصحر وتجريف، حيث تتفكك منظومة قيمه وأخلاقه، وتطرأ عليه صفات غير مألوفة ولا معهودة فيه، من العنف، والبذاءة، والفحش، والقبح، والعدوان، والإغراق فى وحر النفوس وغيظها وقهرها لمن تتعامل معه، وإرادة الإيلام والأذى، فيبقى «باسم»، رحمه الله، ذكرى لا تنطفئ، لإنسان مصرى نبيل، احتك به الناس من سائر التيارات، فاختلفوا معه واتفقوا، لكنهم جميعاً شهدوا له برفعة أخلاقه ووطنيته، ومن الناس من تحتك به فيستخرج منك أسوأ ما فيك من شر، وعدوانية، وشراسة ومكر، ومنهم من تحتك به فيستخرج منك أشرف ما فيك من رُقى وإنسانية. وعلى عكس محمود شاكر الذى عايش «المتنبى» نصف قرن ثم رجع ليقول: «ليتنى ما عرفته»، فإنى لم أعايش «باسم» لحظة واحدة، ومع ذلك أقول من أعماقى: «ليتنى عرفته»، رحمك الله يا صديقى، وموعدنا فى جنة الخلد إن شاء الله، اللهم حقق لنا ذلك، وبلغ أخى «باسم» وسائر موتانا الكرام كامل الرحمة والرضوان.