أهدانى الدكتور محمود نيازى، استشارى أمراض النساء والتوليد، كراسة مطبوعة من تأليفه عن «مصر فى القرآن والسنة». وقد أدهشنى فى البداية أن يشغل هذا الرجل نفسه، وأن يقتطع جزءاً من وقته الثمين ليعكف على جمع مادة موضوعه من كتب التاريخ، وأن يعود إلى القرآن الكريم والسنة النبوية وإلى عدد من التفاسير لتوثيق كل معلومة أوردها فى كراسته التى طبعها فى كتيب، كتب على غلافه بخط واضح: «يُهدى ولا يباع»، ويحرص على توزيعه بنفسه على كل المترددات على عيادته. ولأننى أعرف الدكتور نيازى منذ حوالى 20 عاماً، اتصلت به لأقف على الدافع الذى حرّكه لإثبات أن مصر تستحق منا أن نحبها، وتستحق أن نحرسها ونحميها، وأننا ينبغى أن نفعل ذلك باطمئنان بالغ إلى أنها محمية ومحروسة من الله سبحانه وتعالى. وما إن اتصلت به حتى جاءنى صوته حزيناً وهو يؤكد أن هذا البلد أغلى وأحسن وأعظم من أن نتركه للانهيار والتناحر والتخريب، ثم إذا به يترك موضوع الكتيب ليحدثنى عن نفسه: «أنا من الطبقة المتوسطة التى علمت أولادها أفضل تعليم على نفقة الدولة. تعلمت فى مدرسة الأورمان الثانوية وكان العام الدراسى كله لا يكلف أسرتى أكثر من 8 جنيهات، وتعلمت فى طب القاهرة بتكلفة لا تزيد على 30 جنيهاً فى السنة، وكانت الدولة تصرف لى 20 جنيهاً فى الشهر مكافأة تفوق.. هذا البلد أعطانا الكثير، وأثقلت الدولة ميزانيتها بما فوق احتمالها، لترفع عن كاهل المواطنين معظم وأهمّ أعباء الحياة، مثل التعليم والصحة والسكن والمواصلات والكهرباء». ويواصل الدكتور نيازى: عندما قامت ثورة 25 يناير 2011 فرحت جداً. وبعد أسابيع قليلة من قيامها تبخرت حالة الفرح، وداهمتنى الكآبة مثل غالبية المواطنين الذين يحبون هذا البلد ويعرفون قيمته. كنت قبل هذه الثورة أمشى فى الشوارع مطمئناً فرحاً بالناس، ورغم كل ما يمكن أن يقال عن الفساد وانعدام الكفاءة والأمانة، لم يمت إحساسنا بالأمن، ولم نرَ أحداً يحمل معاول الهدم ويتباهى بالتخريب المتعمد مثلما حدث ويحدث بعد هذه الثورة. أما أخطر ما أزعجه ودفعه إلى أمهات الكتب وتفاسير القرآن الكريم بحثاً عن ملاذ؛ فهو إحساسه بأن شرائح عريضة من المواطنين بدأت تركن إلى نوع من اليأس والقنوط فى حاضر ومستقبل هذا البلد، فإذا به يخرج على الناس حاملاً شعلة ضوء، وكأنى به يتحول إلى منادٍ يخطب فى المصريين: أقسم لكم بالله إن مصر بلد عظيم.. «تهواه القلوب، ويملأ حبه حنايا الأفئدة، فيا ليتنا نعلم قدره كما عظّمه ربنا بذكره فى كتابه.. ويا ليتنا ندرك فضله كما أدركه مَن قبلنا وبذلوا فى سبيل رفعته المهَج والأرواح، ويا ليتنا نرفع راية البناء لتقدمه وليس معاول الهدم لتخريبه!». ويحرص الدكتور محمود نيازى على تفسير الحب الذى يطالب به كل مصرى يعيش على تراب هذا البلد: «إن حب مصر يعنى أن تتشابك أيدينا، وأن نعمل لنهضتها وتقدمها، وأن تتفجر طاقاتنا بالجهد والبناء، وأن ننبذ الفُرقة ونبتعد عن الفتن التى تمزق أوصالنا». ولا ينسى الدكتور نيازى فى كراسته أن يذكّرنا جميعاً بوصية رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن أقباط مصر: «فإن لهم ذمة ورحماً» و«الله الله فى قبط مصر». وأخيراً.. هذا رجل أخرجته أحداث السنوات الأخيرة من عالمه المستقر والآمن، وألقت فى قلبه مخاوف رهيبة مما آلت إليه مصائرنا جميعاً، وكان أخطر ما أفزعه أن يتسرب إلى الوجدان الجمعى لهذه الأمة إحساس طاغ باليأس يقودنا إلى مصير مهلك وإلى مستقبل بائس، فقرر أن يقوم بواجبه وأن يقاوم اليأس بالأمل، والتخريب بالعمل، والفتن بالتسامح والمحبة، وما أعظمها من رسالة فى وقت كثرت فيه الفتن، وتكاثرت فيه طحالب الدعوة الخبيثة إلى اليأس من حاضر ومستقبل هذا البلد.