الأفكار المخلصة التى تضىء للناس فى حياتهم تدوم وتسود ولو عارضها الجاحدون مهما تستروا بالتدين أو اختبأوا فى قميص ما اسموه بالبدع لإيقاف مسيرة التجديد الذى جعله الله سنة كونية حتى فى الدين؛ لما أخرجه أبوداود بسند صحيح عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها». ويدل على خيبة الرجعيين الذين يدعون الناس إلى العيش فى الماضى وإيقاف التطور الحضارى أو الإنمائى عموم قوله تعالى: «يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» (الصف: 8-9). ومن تلك الأفكار المضيئة ذلك المقترح الذى خرج إلى النور من «الجمعية المصرية لمكافحة الإدمان» بتحديد يوم اليتيم سنة 2004م؛ ليتكرر سنوياً ويكون الهدف منه زيادة التواصل والتكافل بين المجتمع والأيتام. وكان المنطق السوى على زاعمى التدين أن يكونوا المبادرين لمثل تلك الأفكار الفاعلة لمقاصد الدين، التى توقف المجتمع على مسئوليته فى كفالة اليتيم فى يومه، كتلك الفكرة العبقرية التى أوقفت المجتمع على مسئوليته فى رعاية الأمومة فى يومها. إلا أن الظلاميين المتسترين بالدين لا يرحمون اليتامى أو الأمهات ولا يريدون لرحمة الله أن تنزل بهم فأشاعوا بدعية الفكرة وحداثتها، وكأنها ولدت لتحريف الدين وهدمه وليس لتفعيل مقاصده، واستقووا بظاهر ما أخرجه الشيخان عن عائشة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «من أحدث فى أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»، وفى رواية لمسلم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد». كما أخرج مسلم عن جابر بن عبدالله أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «إن شر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة». ويمكن لآحاد الناس وبسطائهم أن يرد كيد الظلاميين بأن البدع المنكرة هى ما ينادون هم به من إيقاف سنة الله فى كونه القائمة على التجديد فى الآليات والأدوات، أو التى تنال من مقاصد الدين وأحكامه التوقيفية. أما ما يكون سبباً فى تفعيل تلك المقاصد فهو من التجديد المأجور صاحبه؛ فقد أخرج مسلم عن جرير بن عبدالله البجلى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «من سن فى الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شىء». وأخرج البخارى عن عبدالرحمن بن عبدالقارى قال: خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة فى رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون، يصلى الرجل لنفسه، ويصلى الرجل فيصلى بصلاته الرهط. فقال عمر: «إنى أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل»، ثم عزم لجمعهم على أبى بن كعب، ثم خرج معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم، فقال عمر: «نعم البدعة هذه». إن يوم اليتيم ليس هو يوم تكريمه وتذكره والإحساس به والدعوة إلى كفالته كما يظن الواهمون، ثم يعدون وهمهم هذا عيباً على فكرة تحديد اليوم، ومثل ذلك يقال فى يوم الأم. إن يوم اليتيم فى الحقيقة هو يوم محاسبة النفس على ما قدمت وما أخرت طوال عامها السابق فى حق هذا الإنسان الضعيف الذى فقد أباه فى صغره، فانضم إلى ضعفه بالسن ضعف آخر بالسند. والمجتمع الذى لا يرعى ضعفاءه محكوم عليه بالضياع والهزيمة؛ لما أخرجه البخارى عن سعد بن أبى وقاص، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم»؟ إن المسلم الذى لا يسعى إلى كفالة يتيم كأنه أعرض عن دعوة النبى صلى الله عليه وسلم لمجاورته، فقد أخرج البخارى عن سهل بن سعد أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «أنا وكافل اليتيم فى الجنة هكذا»، وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى. وإذا كان اليتيم فى الطبيعة هو الصغير الذى مات أبوه، ولم يعد له أن يراه رؤية العين فى الدنيا فهذا أهون فى مسئوليته من هؤلاء اليتامى الذين يصنعهم المجتمع ببعض عصاته ومذنبيه فى صورة ارتكاب فاحشة الزنى وما ينتج عنها من أطفال يتركون لأمهاتهم الضعاف، واللاتى يعجزن عن تحمل مسئوليتهم وحدهن، وكثيراً ما يلقونهم على أبواب دور العبادة أو قارعة الطريق ليعيش هؤلاء الأطفال يتامى الأبوين، وهما حيان وليسا ميتين، وهذا ما نقصده بمصطلح اليتم الصناعى. إن العصاة والمذنبين من الرجال الذين تسببوا فى هذا اليتم الصناعى لم يكتفوا بمعصيتهم الكبيرة وإنما أضافوا إليها فاحشة أكبر وذنباً أعظم بترك نتاجهم من الأطفال يموتون بالتخلى عن إطعامهم وإسكانهم وتنسيبهم، وإذا كتب لهم البقاء بأكل القمامة أو صدقات المحسنين صاروا قتلة للآخرين لحرمانهم من الانتماء والولاء. قد يحتمى هؤلاء العصاة بوجه من قول فقهى ذهب إليه جمهور الفقهاء الذين قالوا إن ابن الزنى ينسب لأمه الزانية ولا ينسب للزانى أباً. وبعيداً عن مناقشة دليل هذا القول فإنه هو نفسه قد أجاز للزانى أن يستلحق ولد الزنى به لمجرد إمكان صدق المستلحق عقلاً -أى فى التصور النظرى، وليس العملى- كما منع المجتمع أو أحداً من المسئولين أن يستفصل من الزانى عن أصل هذا الاستلحاق، أو أن يسأله دليلاً لإثبات هذا النسب طالما لم يوجد منازع له فى هذا الاستلحاق، وهو مذهب الحنفية فى الاستحسان وإليه ذهب الشافعية والحنابلة، وإن ذهب الحنفية فى القياس ومذهب المالكية إلى إلزام المستلحق أن يأتى بشهادة عدلين أو أن يقدم قرينة قوية تثبت نسبة الولد له شرعاً. وكأن جمهور الفقهاء الذين منعوا تنسيب ابن الزنى من الزانى أرادوا ألا يمنحوه شرف التنسيب بفاحشته حتى لا يتساوى مع شرف التنسيب بالزواج. فإن أراد الزانى أن يحمى ولده من الزنى من الضياع، وألا يضاعف على نفسه الجرائم بضم جريمة إضاعة الولد مع جريمة الزنى فعليه أن يسعى إلى استلحاق ولده وينسبه إليه شرعاً ويتحمل مسئولية تربيته، وله على المجتمع أن يحمى سره بعدم توجيه سؤال إليه عن سبب هذا الاستلحاق أو إثبات علاقته الشرعية بأمه عند الأكثرين؛ لتشوف الشارع إلى أمر التنسيب الذى يحمى الأطفال الضعفاء. وصدق الله حيث يقول: «ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِى الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ» (الأحزاب: 5). لذلك كانت الحجة على أصحاب الفاحشة الذين تسببوا فى الحمل الحرام عندما احتموا بمذهب جمهور الفقهاء القائل بعدم تنسيب ابن الزنى من الزانى، أن نسألهم لماذا لم تستجيبوا لنداء أكثر هؤلاء الفقهاء بالتوجه إلى استلحاق أبنائكم الذين تعرفون أنهم نتاجكم، وقد أخرج أبوداود والنسائى وابن ماجه بسند ضعفه الألبانى وصححه ابن حبان والحاكم عن أبى هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين نزلت آية المتلاعنين: «أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله فى شىء ولن يدخلها الله جنته. وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله عنه وفضحه على رؤوس الخلائق من الأولين والآخرين». إن من أراد أن يوقف نزيف فاحشته التى أثمرت ولداً من حرام عليه أن يسارع باستلحاقه ولا يتركه يتيماً بصناعته المنكرة؛ استجابةً لمذهب الجمهور، أو عملاً بمذهب الشعبى والنخعى وعروة وسليمان بن يسار وبعض المالكية، وقريب منه قول الحسن البصرى وابن سيرين اللذين قالا إن الولد ينسب شرعاً لصاحب الماء أماً وأباً على السواء، ولو كان نتاج سفاح؛ لعموم قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً» (الفرقان: 54)، ولما أخرجه البخارى عن ابن عباس، وأخرجه مسلم عن أنس، فى قصة المتلاعنين، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «أبصروها فإن جاءت به أبيض سبطاً فهو لزوجها، وإن جاءت به أكحل جعداً فهو للذى رماها به»، فجاءت به على النعت المكروه، فقال: «لولا الأيمان لكان لى ولها شأن». كما أخرج البخارى عن عائشة فى قصة عتبة بن أبى وقاص الذى عهد إلى أخيه سعد أن ابن وليدة «جارية» زمعة منى فلما نظر رسول الله إلى شبهه رأى شبهاً بيناً بعتبة إلا أن عبد بن زمعة قال هو أخى ولد على فراش أبى، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: «هو لك يا عبد. الولد للفراش وللعاهر الحجر، واحتجبى منه يا سودة بنت زمعة». قالت فلم ير سودة قط، وكانت سودة زوج النبى صلى الله عليه وسلم. فهكذا اعتبر النبى صلى الله عليه وسلم الشبه الدال على صاحب الماء؛ لأنه أمر سودة بالاحتجاب؛ إذ كيف تحتجب من أخيها؟ يقول ابن حجر فى «فتح البارى»: استدل الحنفية بهذا الحديث على أن النبى صلى الله عليه وسلم لم يلحقه بزمعة؛ لأنه لو ألحقه به لكان أخاً لسودة، والأخ لا يؤمر بالاحتجاب منه. ويؤيد هذا المعنى ما جاء فى بعض طرق هذا الحديث: «احتجبى منه يا سودة فإنه ليس لك بأخ»، وإن طعن بعض أهل العلم فى تلك الزيادة. إن من فضل يوم اليتيم أن نتذاكر حق الصغار لإحياء أقوال فقهية تحمى المجتمع من ظاهرة أطفال الشوارع، وتوقف نزيف اليتم الصناعى حتى نستوعب كفالة اليتم الحقيقى، وإن كانت يد الإرهاب الآثمة فى أيامنا هذه تزيد منه فى صراعها على السلطة وفقاً لقاعدتها الإجرامية: «إما أن نحكمكم وإما أن نقتلكم». قاتل الله الإرهاب وقطع دابر أهله، وهدى أصحاب الفاحشة إلى التوبة واستلحاق أطفالهم.