«أنا البحر فى أحشائه الدر كامن.. فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتى؟».. لغتنا العربية يسر لا عسر، ونحن نملكها.. هذا ما كان يؤكده عميد الأدب العربى طه حسين رداً على تشويه اللغة العربية بحجة صعوبتها، ولغتنا الجميلة طربنا لسماعها بصوت فاروق شوشة، ولكن لغتنا الآن قبيحة: سب وقذف وشتيمة، ونحن نقبلها ونفضلها منزوعة الرقى والأدب وكاملة دسم القبح والعنف وأصبحت الشتيمة الطريقة المصرية الجديدة للفتونة العصرية. عندما ننظر للحوائط فى جميع الشوارع، وأينما وليت وجهك، ستصدمك الشتائم وترديك ممتعضاً ومكتئباً وغريباً، والكارثة أن نعتاد الشتائم، فإذا اعتدناها فليس على الشتامين حرج. وإذا أغلقت عينيك وأذنيك عن رؤية وسماع قبح وعنف الألفاظ والمعانى واتجهت ببصرك تجاه الفضاء الإلكترونى ستغرق فى ركام الألفاظ القبيحة وطوفان من الغل والقذارة.. كلمات ومعانٍ تكسر فى الروح والوجدان وتدمر استواء الشخصية الإنسانية وإن عبَّرت عن شىء فهى تعبر عن انحطاط حضارى لا يمكن قبوله تحت أى ظرف من الظروف. فكما تحولت الحرية إلى فوضى، تحول حق التعبير إلى سفالة، والمدهش أن السفالة لم تعد قاصرة على من لم يكن لهم من العلم نصيب، بل أصبحت سفالة المتعلمين ومن يدعون أنهم صفوة ومن يزايدون أنهم مناضلون، وأصبح التجويد فيمن ينحت عبارات باذخة السفالة، فهذا يضمن أن تكون عبارات لها النصيب الأوفر من سعة الانتشار، وبالتالى أصبح هناك إبداع فى اختراع شتائم جديدة أكثر انحطاطاً ووضاعة لتكتسب صفة الجماهيرية حتى ألفاظاً وتعبيرات شتائمية مليئة بكل السباب وبتفجيرات غرائزية وغليظة. زمان، كنا نتندر على أنفسنا؛ لأننا كمصريين عندما نحب نعبر عن شدة الحب باستخدام تعبير «أحبك موت»، وكان تفسير علماء الاجتماع لذلك أن المصريين شعب مفطور على الحزن ويستمتع به وأنه يتذكره حتى فى أقصى لحظات فرحه أو أنه شعب لا يطمئن على مستقبله؛ فهو دائماً فى حالة خوف، وبالتالى ينتظر السيئ بعد الحسن فيتحسب له؛ ولذلك عندما يضحك يقول: «اللهم اجعله خير»، أما الآن وبعد أن أدركتنا ثورة مواقع التلاسن الإلكترونى والتلاعن الاجتماعى فأعتقد أن علماء الاجتماع سيقفون عاجزين أمام ما ظهر من الشعب المصرى وما طفح على ألسنتهم من قاذورات لغوية تحاصرنا فى الرؤية والسمع والكتابة فى الشوارع، على الحوائط، وعلى الشاشات و«أون لاين».. الشتائم أصبحت سلاحاً على ألسنة الناس؛ فهناك صاحب اللسان المطواة أو اللسان الشمروخ أو اللسان المولوتوف أو اللسان العبوة الناسفة.. فى مصر الآن، الشتائم حرب إرهاب وترويع لشخصية المصرى المسالم الطيبة التى كانت ولم تعد.. فإما أن تلتحق ب«بنى سفالة» أو تكون من المستضعفين فى الأرض والعرض.. ومن المكتئبين الذين أعلنوا الحزن على الوطن؛ فأى وطن هذا الذى يطفو على سطحه «بنو سفالة» ويغرق فى دوامته أغلب الناس ليصبحوا السادة الشتامين وكأن الشتيمة حصانة أو كأنها تاج لا يدركها إلا الأسياد.. السادة الشتامين.. ليس منكم من لم يلوث مصر بالإرهاب أو بالسباب.. فارحلوا واذهبوا فأنتم الوباء..