رائحة الدماء تنبعث من على جدران المنازل، نوافذ متفحمة اختلط تكوينها مع قوالب الطوب المحطمة، بواقى أشلاء آدمية تعرضت للشواء التام بعد أن فصلت رؤوس أصحابها عن أجسادهم، دماء متجلطة لا تزال تتساقط نقاطها من أعلى درجات السلالم والأدوار العلوية، فوق بواقى أثاث كانت قبل بضعة أيام تتزين لاستقبال عرس أحد شباب «الهلالية»، قبل أن تتشح القبيلة بالسواد لفقدان 14 من أبنائها، وعشرات المصابين فى اشتباكاتهم مع أبناء قبيلة «الدابوديين» بمحافظة أسوان. «الحايلة مايلة، والحياة ما عادلهاش لزوم بعد لما بيوتنا ولعت وأهلنا راحوا»، لم تتوقف مأساة عبدالله الشحات، 55 سنة، أحد أبناء قبيلة الهلالية، عند فقدانه لابنه وشقيقته وأولادها الثلاثة، فالمشاهد التى رآهم عليها قد تتسبب فى وفاته بالحسرة عليهم -على حد وصفه- حيث يقول: «يا ريت الدابوديين قتلوهم وسابوهم من غير ما يمثلوا بجثثهم، كانت نارى بردت، ولكنهم فصلوا رؤوسهم عن أجسامهم بالسكاكين قدام الناس كلها، وبعدين ولعوا فيهم، ولولا أن الأهالى اتدخلوا كنا دفنا حتة فحم». يضيف «الشحات»، قائلاً: إن ما شاهده الأهالى فى اشتباكات الأيام الماضية لا يمكن أن يوصف، وما زاد من الألم قيام النوبيين باستغلال صور قتلى الهلاليين، والترويج لها على أنها لأقاربهم، واتهام الهلاليين بالتمثيل بالجثث، وهذا ما يقول «الشحات» إنه سيدفعهم لأخذ حق موتاهم، مهما كلفهم الأمر، للرد على ما سماه «ظلم وطغى النوبيين»، الذين اتهمهم ب«ترويج الشائعات لاستغلالها فى تهييج الرأى العام ضد الهلاليين». حوائط بشرية قد تكلف كل من يقترب من حدود بنى هلال حياته، هجوم من الشباب للاستفسار عن هوية الراغب فى الدخول إليهم مقترن بحالة من الهلع والخوف تظهر فى طريقة تحدثهم من خلف سيارات أمنية لا يتحقق الموجودون بداخلها من هوية الزائر، رفض للحديث مع كل من يحاول الاستفسار عما جرى من أحداث، وتأجيل قبول المناقشة لحين الأخذ بالثأر. يقول أسامة زعير، 33 سنة، أحد أبناء الهلالية: «الحديث عن إعلان هدنة بين الطرفين، كلام فض مجالس، لجأ العواقل والكبراء لاستخدامه رغبة منهم فى إنهاء الحديث مع المسئولين ومندوبى الجهات الرسمية، الذين لم يأتوا إلينا إلا بعد هياج الرأى العام ضدهم، زى ما يكونوا كانوا عاوزينا نخلص على بعض علشان يخلصوا مننا، ولم يجدوا منا ترحيباً بمبادراتهم الشكلية للصلح، فاتجهوا إلى كبرائنا وعواقلنا من أجل التدخل لتهدئة الشباب ووقف الاشتباكات». ويتساءل «زعير»، قائلاً: «وبعد الهدنة إيه هايحصل؟ هايعوضونا عن الدم إزاى؟ هايخلونا ننسى إزاى إن ولادنا ولعوا قدام عيونا، وأجسام حريمنا استبيحت واتكشفت قدام كل الدنيا، وإن الأمن كان واقف جنب النوبيين وهما بيهاجموا بيوتنا بالطوب والرصاص؟». أما إبراهيم أحمد عبدالمحسن، 45 سنة، أحد أبناء بنى هلال، فحكى عن مشاهد هجوم شباب النوبيين على منزله، والتعدى على زوجته بالضرب بالشوم والعصى، حتى فارقت الحياة، ثم تم فصل رأسها عن جسدها بعد مقتلها، وما يزيد من غضبه نشر شباب النوبيين لصورها، وهى عارية مقتولة على عربة كارو فى جميع وسائل التواصل الاجتماعى والإعلام، حيث يقول: «لا يد لنا فى الاشتباكات، حتى يحدث لنا كل ما رأيناه سوى وقوع منزلى على بعد 50 متراً من مدرسة الصنايع التى شهدت الشرارة الأولى لاشتعال المعركة، حيث فوجئت بغالبية طلاب النوبيين يقومون بمهاجمة منازلنا بالحجارة ويحاولون إشعال النيران فيها فى مشهد عنيف لم نشاهده من قبل، الأمر الذى دفعنا للتصدى لهم والخروج للدفاع عن أنفسنا، وبعد عدة ساعات، فوجئنا بعودتهم مرة أخرى، فاقتحموا منزلى ومثلوا بجثة زوجتى بعد أن قتلوها، ثم ضربوا أسطوانات الغاز بالأعيرة النارية، فتسببت فى تفجير المنزل بأكمله، وإلحاق الضرر بعدة منازل محيطة». «إحنا غالبيتنا عربجية ما بنعرفش نقرا ونكتب، يبقى إزاى هنشتم حريم الدابوديين، ورجالتها ونكتب لهم على الحيطان، وإيه اللى هايخلينا نعمل كده، وإحنا ما فيش بينا وبينهم حاجة، كل واحد فينا بيجرى على أكل عيشه، بس فى النهاية معروف عننا إن إحنا مش بنسيب حقنا»، قالها حسن أبوالغيط، أحد أفراد قبيلة بنى هلال، متحدثاً عن أسباب المشكلة، ويضيف قائلاً: إن النوبيين هم من قاموا بالكتابة على جدران مدرسة الصنايع لاستغلالها فى تدويل قضيتهم وخدمة مشروع القومية النوبية الذى يسعى إليه كبراؤهم قبل الانتخابات الرئاسية، وعن ذلك يستطرد «أبوالغيط»: قام النوبيون بإشعال فتيل الأزمة، متهماً أحد كبرائهم ب«استئجار بلطجية من منطقتى الضنا والبحاروة»، لزيادة حدة الاشتباكات، ويتم تصديرها للرأى العام العالمى كدليل على اضطهاد النوبيين، على حد تعبيره، يضيف «أبوالغيط»: «الدليل على صحة كلامى كميات السلاح الكبيرة التى خرجوا علينا بها وظهرت فى أياديهم وقت الاشتباكات». يواصل «أبوالغيط»: «ثلاثة من كبراء وعواقل بنى هلال ذهبوا إلى النوبيين لأداء صلاة الجمعة معهم وحل المشكلة ووقف نزيف الدماء، وتعويضهم عن مقتل ثلاثة من أبنائهم أثناء مهاجمتهم لمنازلنا، فقام شبابهم باختطافهم من داخل المسجد أثناء تأديتهم للصلاة على مرأى ومسمع من الجميع واحتجزوهم لديهم، دون إبداء مطالب لإخلاء سبيلهم، ثم هاجموا منازلنا وقتلوا 16 دون أن تصل إلينا سيارة إسعاف أو مطافئ، والأغرب من ذلك وقوف أفراد من الشرطة بجوار الجثث الملقاة على عربة الكارو، دون التحرك والقبض على من فعل ذلك». حديث مستمر بين أهالى محافظة أسوان عن تجارة أبناء «بنى هلال» فى السلاح والمخدرات، وشكاوى لا تنقطع من أعمال الشغب والعنف التى يقومون بها ضد غالبية القبائل، كميات كبيرة من الأسلحة ظهرت فى أيدى أبنائها أثناء الاشتباكات، ومطاردات مستمرة لكل من يواجههم بالشائعات التى تدور حولهم. يعترف حسين سلسبيل، أحد أبناء بنى هلال بحوزتهم للأسلحة والاتجار فيها، قائلاً: «نعم عندنا سلاح، والنوبيون هما كمان عندهم سلاح، والداخلية عارفة بنجيبه منين، ومين اللى بيبيعه، وهناك معاملات بيننا وبين بعض أفراد الداخلية فيه، بس ده إيه علاقته بإننا مش غلطانين فى الخناقة مع النوبيين؟» العين بالعين، والسن بالسن، والبادى أظلم، وعلى الباغى تدور الدوائر». ويضيف الرجل الستينى، قائلاً: إن الحديث عن وجود هدنة وتهدئة غير حقيقى، ولا يعدو أن يكون حديث لقاءات رسمية، مشيراً إلى أن حق أبنائهم لن يضيع، ومشاهد الدم التى رأى الهلاليون عليها أسرهم وأهليهم، لن تدفن فى الرمال، طالما ظلت رائحتها تفوح من كل أرجاء القرية. من ناحيته، يصر على عبدالرحيم، أحد أبناء بنى هلال على عدم التفريط فى حق من راحوا، متهماً أبناء النوبة بقتل شاب معاق ذهنياً مصاب بشلل رباعى، يدعى محمود السنى، يبلغ من العمر 38 عاماً، ويعانى من شلل رباعى نتيجة إصابته بجلطة دماغية مفاجئة، جعلته ملازماً للفراش طيلة سنوات عمره الأخيرة، فيقول عبدالرحيم: «اللى زى ده لو سيبنا حقه يبقى حرام علينا، لازم حقه ييجى، والناس اللى تعرضت له تاخد جزاءها، لأن ده القصاص اللى ربنا قال عليه».