يبلغ فرق التوقيت بين موسكو وواشنطن ثمانى ساعات، لذا يُفترض نظرياً اختلاف مواعيد النوم بالنسبة للرئيسين بوتين وأوباما، لكن الأكيد أن كل واحد منهما قبل الاستسلام للنعاس يتحسب لما سيقوم به الآخر فى اليوم التالى! منذ اشتعال الأزمة الأوكرانية وبلوغ ذروتها بهرب الرئيس يانوكوفيتش إلى موسكو، واستيلاء المعارضة على السلطة ثم قيام روسيا بضم شبه جزيرة القرم، بات واضحاً أن الجيل الحالى، الذى سمع عن الحرب الباردة من خلال كتب التاريخ، فاز بفرصة متابعة فصل جديد لا يقل إثارة عن فصولها السابقة! تتوالى التصريحات النارية بين الروس والأمريكان، ويتبادل الطرفان فرض عقوبات على مسئولين فى الكرملين والبيت الأبيض، وتمضى الأمور بصورة وكأنها تدفع بوتين وأوباما مرغمين للصعود إلى شجرتين عاليتين! فى سبتمبر الماضى كنت ضمن إعلاميين وصحفيين جاءوا من كل أرجاء الدنيا إلى مدينة بطرسبورغ الروسية لمتابعة قمة العشرين، ورغم الطابع الاقتصادى للقمة فإن ذلك لم يكن يعنينا من قريب أو بعيد، حيث كان العالم يترقب الخطوة التالية من الرئيس الأمريكى الذى هدد فى وقت سابق بشن ضربة عسكرية ضد سوريا جراء استخدام جيشها أسلحة كيميائية، وهو ما أعلن الكرملين رفضه له، بالإضافة إلى أن الرئيس الأمريكى استبق وصوله إلى روسيا بإلغاء زيارة كانت مقررة إلى موسكو، احتجاجاً على منح السلطات الروسية اللجوء السياسى لعميل الاستخبارات الأمريكية المنشق إدوارد سنودن، فيما وصف الرئيس الروسى وزيرَ الخارجية الأمريكى بالكاذب!.. هكذا كان حال العلاقات الروسية الأمريكية، لذا كان الهدف منصباً على البحث عن إجابة لسؤال وحيد: هل سيلتقى بوتين وأوباما منفردين على هامش القمة لنزع فتيل تلك الأزمة الخطيرة؟!.. راجت التكهنات حول مصير لقاء الرئيسين، وتنوعت السيناريوهات بين إمكانية عقده خلف الكواليس، أو إجرائه بطريقة (الصدفة المقصودة) على هامش عشاء يجمع القادة المشاركين فى القمة!.. كنا نبحث عن تفاصيل شكلية ولو صغيرة قد تترجم ما يحاول الروس والأمريكان إخفاءه.. وفى هذا الصدد انشغل كثير منا فى تحليل لغة الجسد حين وقف بوتين مستقبلاً قادة القمة، وبخاصة عندما جاء الدور للترحيب بأوباما.. فى تلك اللحظة حاول الزعيمان رسم حفاوة مصطنعة وابتسامات متكلفة لم تنجح فى إخفاء ما فى الصدور.. سعى كلاهما للترويج لموقفه لدى قادة القمة، التى أظهرت انقساماً واضحاً بين المؤيدين لدق طبول الحرب ضد دمشق والمعارضين لها.. فى مؤتمره الصحفى الذى عقده فى ختام القمة أكد بوتين أن بلاده مستمرة فى دعم سوريا بالسلاح فى حال تعرضها لأى عمل عسكرى.. بدا المشهد معقداً بانتهاء القمة دون اتفاق، لكن الجانب الأهم غاب عن عيون وسائل الإعلام، التى نجح الروس والأمريكان فى إبعادها عن لقاء عقده بوتين وأوباما أثناء العشاء، سيتضح فيما بعد أنه كان حاسماً فى إلغاء الضربة العسكرية التى هدد الرئيس الأمريكى بتوجيهها ضد نظام الأسد.. اكتشف العالم ببساطة شديدة أن بوتين قدم لأوباما سُلماً ليساعده على النزول من الشجرة!.. جاء السيناريو كالتالى: فور انتهاء قمة بطرسبورغ يصرح وزير الخارجية الأمريكى جون كيرى أن بإمكان النظام السورى تفادى الضربة العسكرية إن قام بتسليم ترسانته من الأسلحة الكيميائية خلال أسبوع!.. بعدها يصل وزير الخارجية السورى وليد المعلم إلى موسكو للقاء نظيره الروسى سيرجى لافروف الذى (يتبرع) بحثّ القيادة السورية على التخلص من أسلحتها الكيميائية إن كان ذلك سيجنبها ضربة عسكرية، ثم يعلن المعلم (بعد التشاور مع حكومته) قبول بلاده للمبادرة الروسية، لتنتهى القصة نهاية سعيدة بالنسبة لأوباما بنزوله آمناً من على الشجرة وسحبه لكل التهديدات التى أطلقها ضد الأسد! ليس من الصعب على المتابع للأزمة الأوكرانية إيجاد أوجه شبه لها مع بعض فصول الأزمة السورية، على الأقل من باب الوضع الراهن للرئيسين بوتين وأوباما والقرارات التى يتعين على كليهما اتخاذها.. الفرق أن زعيم الكرملين عندما قرر ضم القرم إلى بلاده إنما أراد القول إن ذلك كان خياره الوحيد بعد التطورات التى جرت فى كييف.. أى إن صعوده إلى أعلى الشجرة جاء وفق حسابات لا تتطلب بالضرورة تكرار سيناريو نزول أوباما من على شجرة الأزمة السورية!