في أحد الأيام أثناء عملي السابق لمحت كتابًا مع إحدى الزميلات، وبحكم الفضول الذي ينتابني كلما رأيت كتاباً سألتها ماذا تقرأ، وطلبت منها أن أطّلع عليه فأعطتني إياه لأجد كتاب "عصر القرود" للدكتور مصطفى محمود. وقتها لم أكن قد قرأته من قبل، فأخذته منها بفضول وقمت بالمرور عبر صفحاته، لأعطيه لها مرة أخرى، بعد حوالي ربع ساعة قائلاً لها "ده كلام واحد جاله صدمة نفسية من الانفتاح أفقدته اتزانه، واضح إن الموضوع كان صعب قوي على أعصابه ومقدرش يستحمل، حتى لو كان د. مصطفى محمود شخصياً!". في الكتاب، ومنذ السطر الأول، تدرك مدى رعب كاتبه من كل الظواهر المحيطة به، ابتداء من متلازمة فوبيا ملابس المرأة الشهيرة، وترحّمه على أيام كانت المرأة يُنظَر إليها فقط على أنها الأم التي تجسّد الرحمة والحنان، مروراً بتعجبه من ازدحام المدن بالناس واختناق الشوارع وضيق العمارات بسكانها (هذا الكتاب نُشِرت منه الطبعة الأولى عام 1972 إن كنت تتساءل!). يترحم الكاتب على أيام النسمات الطليقة التي عرفها في العصر الزراعي، ثم ضيقه من الموسيقى الصاخبة المتمثلة في الجيتار الكهربائي واختفاء "صوت الناي الرقيق الخجول" و"صوت العود الذي يداعب ويهمس ويوشوش". ويستمر الكتاب في مسلسل الترحمات، فيترحم على "الوفاء في الحب" والذى أصبح "أقصوصة خرافية في مقابل الحب العصري في كافيتريا الجامعة"، ثم يهاجم برنامج "العالم يغني" الذي يعرض أغانى "كلماتها هي في إجمالها حمى وهذيان وهلاوس، وحركاتها تترك لديك الإحساس أنك أمام طقوس وثنية بدائية الصنم المعبود فيها هو جسد المرأة"، وأن تلك الثقافة الغريبة زحفت إلى إعلاناتنا وأغانينا لأننا نقلد الغرب تقليداً أعمى، ويتأفف الكاتب من "رقص الصبايا أنصاف العاريات وغناء داليدا المثير والحركات الهستيرية لأنثى أفعوانية مثل كلوديا كاردينالى"، بالطبع إنتقل الكاتب بعدها إلى الحديث عن نهاية العالم، ودليله على ذلك أن أهل الأرض أصبحوا يظنون أنهم تمكنوا من كل شىء بعد أن مشوا على القمر وأصبحوا يزرعون الأجنة وظنوا أنفسهم آلهة، وبعد إنتشار الإنحلال والنساء العاريات (وكأن كل هذه أشياء هبطت فجأة على كوكب الأرض)، وبعد "الفجور الذى أشاعته فى العالم كله أجهزة السينما، والتلفزيون والإذاعة". هذا كان رأى د. مصطفى محمود فى ما حوله فى بداية السبعينات، فى العصر الذى ننظر نحن إليه أنه كان رغداً ورائعاً مقارنة بما نعيشه الآن، فهل بدأت تلاحظ نمطاً ما؟.