تتميز المجتمعات المعاصرة بدرجة عالية من التعقيد، في ظل الكثافة البشرية والانفجار المعرفي والمعلوماتي والثورة الاتصالية، إضافة إلى انحسار وانزواء الأبعاد القيمية والأخلاقية عن مقدمة الموجهات الاجتماعية للحياة، ما أدى إلى تحوّل الإنسان المعاصر إلى كائن مبرمج يتطلب تأهيلاً خاصًا ليتمكن من ممارسة حقه في الحياة والوجود، في ظل فوضى كاسحة في وسائل استقاء المعلومات، فلم نعد نقرأ، وإذا قرأنا لا نفهم، وإذا فهمنا لا نتخذ التحليل سبيلاً والتدقيق منهجًا في تفسير المعلومات والتنبؤ بما سيحدث. نحن الآن نستقي معلوماتنا من مواقع التواصل الاجتماعي، قاطعنا الكتب فنستنا الحياة، فغابت الرؤية الواضحة، نهرب من المستقبل وتحدياته بين سطور التاريخ ومؤلفاته، نُبدد حاضرنا بكسب حياة افتراضية على (فيس بوك)، نسرح في الخيال ونحلم بمستقبل أفضل دون محاولة تغيير الواقع على أرض الواقع. فازدحمت حياتنا الخالية بمفكرين ومثقفين من ورق، مُعتبرين أنفسهم "نخبة"، وهم بالفعل كذلك ولكن على الورق، مع الأخذ في الاعتبار أن صناعة النخب من أرقى الفنون التي يمارسها المجتمع وتشرف عليها الدولة بتنشئة سياسية متزنة ومعتدلة، أي أن النخبة يجب أن تكون صناعة مجتمعية من خلال المجتمع ذلك الكائن الحي المتفاعل مع بيئته وحاضره، ليصبح لدينا مفكرون من صنع المجتمع قادرون على خلق الفكرة وتنفيذها وليس استيراد الفكرة وتلبيسها ثوب الوطنية والذاتية. فمن ضمن آليات إنتاج النخب، نجد الإنتاج الذاتي حيث تنشأ النخبة في إطار ذاتية مجتمعاتها، من خلال ولادة طبيعية عن طريق: المؤسسات أو المنظومات التربوية التعليمية حتى يتسنى لها الاستمرار والاستقرار وليس إنتاج خارجي أو زرع شيطاني داخل مجتمعات تسعى إلى الصلاح والإصلاح. ولكن هذا النبت الشيطاني ينشأ من تلقاء نفسه في مجتمع ما، استنادًا إلى منظومة قيمية أو فكرية خارجية، فيعاني من صعوبة في الاتصال والتواصل والانخفاض في الفعالية والتفاعل ونسبة منخفضة في التأثر استجابة لمقتضيات الواقع، ويعاني من شعور بعدم الانتماء، ما يفقده القدرة على المشاركة إحساسًا يدفعه في النهاية إلى عقدة الشعور بالتفوق واحتقار الآخر وهذه جميعها تفقده القدرة على التأثير والتأثر. وللأسف، فقد حفلت مصر في الآونة الأخيرة، بكثرة عدد الأبطال الذين يتخذون من الثورية وشاحاً ليُخفي ما بداخلهم من فراغ فكري، مُدعين أنهم نخبة تعلم ما في الأنفس وما تخفي الصدور، محتكرين الوطنية، مدافعين عن القيم الإنسانية، ولكنهم لا يعلمون عن الشعب شيئاً، يركبون كل موجة ويركضون برفقة الضجيج ويتزاحمون تحت أضواء الحدث، حتى لو كان تغريدة تافهة من شخص تافه، لديه من العقد النفسية ما يكفيه لدرجة جعلته يهرب من أولي معارك الوطن، علي الرغم من أنه يري نفسه بطلاً بإيهام من قله شباب مبهورين بقدرته علي التبردُع، أقصد البرادعي الذي يعُتبر ظاهرة صوتية علي تويتر وليس علي أرض الواقع، فكما يصفه الإعلامي الكبير حمدي قنديل في مذكراته: " لا يقبل الرأي الآخر ومتردد"، هذا هو الليبرالي الديمقراطي الحر، ظاهريا ليبرالي ولكنه في الطبيعة مُستبد. نحن في حاجة إلى تنشئة سياسية سليمة ودوران نخبوي فعال، لنمتلك نخبة محلية قادرة على الأفعال وليس الأقوال، في ظل هذه الفوضى التي نحياها في كل شيء، فالنخب السياسية لا تصنع الاستقرار ولكنها تخلق الفوضى.