فوجئتُ فى حوار من حوارات جريدة «الوطن» بالحديث الذى أُجرى مع الدكتور محمود مهنى، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، فى الصفحة الخامسة من يوم الاثنين الموافق 12 مايو 2019، بعنوان ضخم جاء فى السطر الثانى منه: «عصفور يهدم فى الإسلام»، ودُهشتُ من العنوان الذى أثار فضولى وجعلنى أجلس إلى مكتبى وأقرأ على مهل الحوار مع محمود مهنى تفصيلاً. ووجدتُ الاتهام موجوداً فى سياق الحوار، إجابة عن سؤال طرحه المحاوران اللذان أجريا هذا اللقاء: الأستاذ سعيد حجازى والأستاذ عبدالوهاب عيسى. وكان السؤال يقول: «شن علماء الأزهر هجمات ضد بعض المثقفين وآخرهم الدكتور جابر عصفور.. لماذا؟». وجاءت الإجابة المدهشة على النحو التالى: «جابر عصفور يهدم فى الإسلام ويهدم فى القرآن، وحملته لتجسيد الأنبياء والصحابة مرفوضة. فأنا أرفض تجسيد الأنبياء والعشرة المُبشَّرين بالجنة والصحابة، فكيف يأتى شخص ليمثل دور النبى محمد بعظمته ثم نجده فى فيلم آخر يقوم بتقبيل ممثلة؟». والحق أننى دُهشتُ عندما قرأت هذا الكلام؛ لأنه يبدأ بنوع واضح من التكفير خصوصاً عندما تبدأ الإجابة بقول حاسم.. «جابر عصفور يهدم فى الإسلام ويهدم فى القرآن»، فهذا كلام مدهش ولا يليق بواحد من هيئة كبار العلماء، يعرف قبل غيره أن اتهام مثقف أو مفكر بأنه «يهدم فى الإسلام ويهدم فى القرآن» ليس سوى نوع من أنواع التكفير الواضح والصريح، فضلاً عن أنه كلام يحض على القتل، وذلك على نحو ما حدث مع نجيب محفوظ أو فرج فودة، حيث قرأ شاب أُمِّى جاهل هذه العبارات التكفيرية فلجأ إلى تنفيذ ما ألمحت إليه عبارات التكفير، وهو قتل من قال العبارات التى رأى فيها بعض علماء التشدد نوعاً من التكفير. وتوقفتُ غير مُصدِّق أمام هذه العبارات التى لا معنى لها سوى التكفير، متأملاً فى الدوافع التى يمكن أن تدفع عالماً من هيئة كبار العلماء إلى أن يقول هذا الكلام التكفيرى الذى يُلقيه على عواهنه دون تروٍّ أو تردد، وهو الأستاذ الذى ينبغى بحكم منصبه ودراسته أن يتردد كثيراً قبل أن ينطق بمثل هذه الكلمات القاتلة. ولا شك أن هذا الرجل قد قرأ ما يروى عن الإمام مالك من أنه «إذا ورد قول عن قائل يحتمل الكفر من تسعة وتسعين وجهاً، ويحتمل الإيمان من وجه واحد، حُمِل على الإيمان ولم يحمل على الكفر»، وذلك لأن تعاليم الإسلام -وهو دين السماحة وحُسن الظن بالمسلمين- لا تدفع إلى مثل هذه الأقوال الانفعالية التى يُمكن أن تترتب عليها كوارث ومآسٍ. والحق أننى لم أتذكر ما ينسب إلى الإمام مالك فحسب، وإنما تذكرتُ ما يُنسب إلى الإمام محمد عبده، الذى اختصر مبادئ الإسلام فى خمسة مبادئ أساسية، أولها: النظر العقلى لتحصيل الإيمان. وثانيها: تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض. وثالثها: البُعد عن التكفير. ورابعها: الاعتبار بسنن الله فى الخلق. وخامسها: قلب السلطة الدينية والإتيان عليها من أساسها. فلقد هدم الإسلام بناء هذه السلطة، ومحا أثرها فيما يجزم الإمام محمد عبده الذى يؤكد أنه ليس فى الإسلام ما يُسمى «السلطة الدينية» بوجه من الوجوه. وكلها مبادئ لا تنفصل عن معانى الاجتهاد وضرورته التى تستند إلى الحديث الذى يقول: «من اجتهد فأصاب فله أجران، ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد»، ولا يعنى هذا الحديث فى تقديرى سوى تأكيد التعددية فى باب الاجتهاد والسماح بإمكان الاختلاف فيه، فليس كل المسلمين مُطالبين بأن يَصِلوا إلى النتيجة نفسها ما دامت قد توفرت لهم شروط الاجتهاد. والحق أننى عندما عُدتُ إلى الكلمات التى نقلتُها عن الدكتور محمود مهنى عضو هيئة كبار العلماء، وجدتُه خارجاً على تعاليم الإسلام فى هذه الدائرة، بل إنه يعصفُ بها مستبدلاً بتعددية الاجتهادات أُحادية النظرة التى اتسمت بها النزعات الحنبلية الوهابية المتأخرة، أعنى النزعات التى ترفض الاختلاف والتى ترى فى المغايرة كفراً، وذلك بالقدر نفسه الذى تتصور أنها الفرقة الناجية الوحيدة وأن من عاداها أو اختلف معها من الضالين المُضلين يدخلون فى دائرة الكفر. وما هكذا يذهب علماء الدين الحقيقيون الذين يحترمون حق الاجتهاد عند غيرهم ويُقرّون ابتداء بأن المُجتهد مثاب حتى لو أخطأ. هذه هى مبادئ الإسلام التى أعرفها والتى تعلمتُها من مشايخ الأزهر المُستنيرين ابتداء من محمد عبده وانتهاء بالدكتور محمود زقزوق الذى ينزل منزلة الأستاذ بالنسبة للدكتور محمود مهنى. والفارق بين محمد عبده ومحمود زقزوق من ناحية، والدكتور محمود مهنى من ناحية ثانية، هو الفارق بين سماحة العقل الإنسانى ومرونته، وجهامة الفكر الأصولى وميله إلى التكفير من ناحية موازية، وإلى تصور انتمائه إلى مؤسسة دينية لها سلطة نافذة حتى على رقاب العلماء المسلمين المُغايرين لها فى المذهب أو الاتجاه، ولذلك لم يُحسن الدكتور محمود مهنى الظن بواحد من المسلمين، إنما تعجَّل واستبدل بحُسن الظن سوء الظن، كما استبدل بالتأنى فى الاجتهاد التسرع الذى يؤدى به إلى الحكم بالتكفير. ومن يُدريه لعل الذى حكم عليه بالتكفير يكون أقرب عند الله من هذا الذى يُسارع بتكفير الناس. وهو ما لم نَعتَده من خطاب هيئة كبار العلماء فى الأزهر الذين ينبغى أن يكونوا قدوة لغيرهم من المسلمين سواء فى حُسن الظن وعدم المسارعة إلى التكفير، أو حتى توهُّم أنهم معصومون بانتسابهم إلى سلطة دينية، هى هيئة كبار العلماء. والحق أن الإسلام هدم السلطة الدينية ومحا أثرها حتى لم يبق لها عند الجمهور من أهله اسم ولا رسم، فالإسلام لم يَدَع لأحدٍ بعد الله ورسوله سلطاناً على عقيدة أحد، ولا سيطرة على إيمانه، وأن الرسول -عليه السلام- كان مبلِّغاً ومُذكِّراً لا مُهيمناً ولا مُسيطراً، ولم يجعل لأحد من أهله سُلطة أن يحل ولا أن يربط لا فى الأرض ولا فى السماء. هذه كلمات الإمام محمد عبده، ومعناها البسيط إذا لم يفهمه الدكتور محمود مهنى أنه لا هو ولا لجنة كبار العلماء نفسها يمكن أن يكون لها سلطة دينية على المسلمين أفراداً أو جماعات، وأن للمسلمين الحق فى أن يجتهدوا فى فَهم إسلامهم وتأويله حسب ما تراه عقولهم فى تفاعلها مع متغيرات عصرهم. ولنتذكر أخيراً أن الإسلام هو علاقة مباشرة بين المسلم وربه، وإلا ما كان هناك معنى للآية الكريمة: «وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِى عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً» (سورة الإسراء - الآية 13). هكذا، يتجلى الخلاف الذى دفع الدكتور محمود مهنى إلى تكفيرى بلا بيِّنة ولا دليل، وإنما كان دافعه هو سوء الظن والتعصب لاجتهاد لا يزال يراه مع دعاة الصحوة الدينية أو السلفية الجامدة التى أخذت تسيطر على الحياة الإسلامية منذ مطالع السبعينات، ويتزايد تشددها تدريجياً إلى درجة تحريم السينما والفنون والرقص والنحت وغير ذلك من أنواع الفنون الجميلة. أما مسألة تمثيل أو تجسيد الصحابة والأنبياء فى السينما، فهى قضية خلافية يجتهد البعض فى النظر إليها، فيرى فريق منهم جواز تجسيد الأنبياء والصحابة استناداً إلى «فقه المُستحدثات»، وهى الأمور التى لم يَرِد فيها نص قرآنى أو حديث نبوى، والتى جاءت نتيجة التطور الحضارى المُذهل الذى وصلت إليه البشرية، ولا مُعوِّل إزاء هذا النوع من «فقه المُستحدثات» سوى اللجوء إلى معيار «مصلحة الأمة»، عملاً بالقاعدة الشرعية: «حيث وُجدت المصلحة فثمَّ شرع الله». ومسألة تجسيد الأنبياء والصحابة انقسم المجددون أو المُحدَثون حولها، فذهب بعضهم إلى إباحة تجسيد الأنبياء فى السينما، ولم يكن ذلك يُمثِّل مشكلة عند أصحاب الديانات السابقة على الإسلام، فلا يوجد ما يمنع حق اليهود أو المسيحيين أو غيرهما من أصحاب الديانات السماوية من تجسيد أنبيائهم، وذلك على أساس من المعنى الأخلاقى الذى يرى التأثير التربوى لمثل هذه الأفلام فى تنشئة شباب كل ديانة على حدة، ولذلك شاهدنا فى مصر عشرات من الأفلام التى تدور حول المسيحية واليهودية قبل أن نرى ما يسمى بالصحوة الإسلامية ابتداء من السبعينات، فضلاً عمّا ارتبط بها من تعصب وتشدد وتكفير. أما فيما يتصل بالدين الإسلامى، فقد ظللنا نشاهد منذ مطلع الخمسينات أفلاماً عن الصحابة. ولعل أوَّلها فيما أذكر فيلم «ظهور الإسلام» المأخوذ عن قصة طه حسين «الوعد الحق»، وقد ظهر سنة 1951. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد تكررت الأفلام الخاصة بالدين الإسلامى عبر السنوات اللاحقة، فظهر فيلما «ظهور الإسلام»، سنة 1951، و«انتصار الإسلام» سنة 1952، وبعد هذين الفيلمين توالت الأفلام الدينية: «بلال مؤذن الرسول» 1953، «السيد أحمد البدوى» 1955، «بيت الله الحرام» 1957، «خالد بن الوليد» 1958، «الله أكبر» 1959»، «مولد الرسول» 1961، «شهيدة الحب الإلهى» 1962، «رابعة العدوية» 1963، «هجرة الرسول» 1964، «فجر الإسلام» 1971، «الشيماء «1972». ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد، فقد اشترك الفنانون المصريون فى فيلم عن «حياة وآلام السيد المسيح»، وهو إنتاج عام 1938. وكتب المادة الحوارية الأب أنطوان عبيد، وراجعها طه حسين، وقد حافظ الفيلم على ما جاء به «العهد الجديد» بالكتاب المقدس، وشارك فيه: أحمد علام (السيد المسيح)، عزيزة حلمى (العذراء مريم)، سميحة أيوب (مريم المجدلية)، عبدالعليم خطاب (بطرس)، صلاح سرحان (بيلاطس)، توفيق الدقن (قيافا)، سعد أردش (الفريسى)، استيفان روستى (المولود أعمى). صحيح أن الممثلين كانوا من الأجانب، ولكن الأصوات نفسها التى كانت تنطق، إنما هى أصوات الممثلين المصريين الذين ذكرنا أسماءهم. وقد عُرض الفيلم فى مصر فى مطلع الخمسينات بسينما كايرو ولم يعترض أحد وقتها، بل حضر عرضه نخبة من المثقفين والفنانين وقتها. وقد استمر ظهور الصحابة المحيطين بالرسول -عليه الصلاة والسلام- على امتداد الزمن الذى بدأ بفيلم «ظهور الإسلام» 1951، حيث شاهدنا الصحابة المُبشَّرين بالجنة، واستمر الأمر عبر أفلام مثل: «انتصار الإسلام» و«بلال مؤذن الرسول» و«خالد بن الوليد» وأخيراً «الشيماء»، وقس على ذلك غيرها من أعمال سينمائية عربية جسدت أدوار الصحابة الذين عاصروا النبى -عليه أفضل الصلاة والسلام- وكان آخر ما شاهدناه من عمل تليفزيونى من إنتاج الدولة 2002، هو مسلسل «عمرو بن العاص» الذى كتبه أسامة أنور عكاشة، ومَثَّله نور الشريف، الذى جَسَّد أيضاً من قبل شخصية الخليفة الأموى «عمر بن عبدالعزيز» سنة 1995. ولا أزال أذكر النجاح الهائل لفيلم المرحوم مصطفى العقاد «الرسالة» 1976، الذى حقق نجاحاً دولياً على كل المستويات. وظهر فيه عدد من الصحابة المُبشَّرين بالجنة، بل رأينا بين أبطاله «حمزة» عم النبى -عليه الصلاة والسلام- الذى اغتاله عَبدٌ حبشى. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد مَوَّلت المملكة العربية السعودية نفسها مسلسلاً تليفزيونياً شهيراً عن «عمر بن الخطاب»، بتكلفة بلغت 200 مليون ريال سعودى، وشاهده الملايين من المسلمين للمرة الأولى فى شهر رمضان 1433ه - 2012م. وأخيراً فما أذهب إليه فى هذا الجانب من ضرورة إباحة تمثيل الصحابة وتجسيد أصحاب الديانات المُغايرة للإسلام والاكتفاء بالمشاهد الرمزية الخاصة بنبى الإسلام وحده. هذا اجتهاد اجتهدتُه ولستُ خائفاً من الخطأ، فالمرء مُثاب حتى على الخطأ فى حالة الاجتهاد الفكرى الذى أمرنا الإسلام به. ولم يكن من قبيل المصادفة أن يَقرن الإسلام حق الاجتهاد بحق الخطأ نفسه، فالإثابة أو الخطأ فى الاجتهاد خصال بشرية، شأنها فى ذلك شأن الحقائق النسبية التى يتوصل إليها الإنسان والتى يمكن أن تتغير بتغير الزمان أو المكان. هذا هو ما علَّمنا إياه الإسلام، وما ينبغى أن يصرفنا عن الاجتهاد الخوف من الخطأ أو حتى من اتهام أمثال الدكتور محمود مهنى بالكفر، فتهمة الكفر فى الأمور الاجتهادية تعود على من يُطلقها وليس على من يوصم بها، خصوصاً أنها تأتى من مُتشدد لا يعرف معنى الاجتهاد فى الإسلام، ولا حتى احترام حق الخطأ فى الاجتهاد الذى لا يمكن أن يوصف صاحبه بهدم الإسلام أو هدم القرآن، فالإسلام أعظم بكثير من ضيق تصور محمود مهنى عنه، والقرآن الكريم أسمى من ضيق الأفق الذى أصبح لازمة من لوازم هيئة كبار العلماء، وإلا فما المبرر لهذا التعنت والرفض لما قاله رئيس الدولة ودعا إليه من توثيق الطلاق الشفوى أو الطلاق الشفهى، وهى دعوة لا تتعارض إطلاقاً مع «فقه المُستحدثات» ومع التغير العظيم الذى أصاب مجتمعات الدنيا كلها، فى زمن تحرَّك كل ما فيه حتى الحَجر. لقد أصبحنا فى عصر مختلف، متسارع الإيقاع، يدعونا إلى مراجعة أفكارنا والاجتهاد فى تجديد خطابنا الدينى. وإن لم نفعل ذلك فالتخلف عن ركب الحضارة والتقدم الإنسانى هو مصيرنا. ولا نجاة لنا إزاء هذا الوضع إلا بإعمال العقول والمزيد من التدبر والتفكر فيما ينصلح به وضعنا الحضارى ويتقدم به خطابنا الدينى على السواء. اللهم هل بلغت، اللهم فاشهد.