نهضت فجأه بينما كان يفحص الأوراق الكثيرة التي قدمتها له ليوقعها، وبدا إنها منصرفة فأمسك يدها في تلقائية وانشغال أسعداها وألجمها.. فتوقفت "أمرك يافندم"... لم تكن فعلًا تهم بالإنصراف لكنها تظاهرت بهذا لكي لا تحرج لمسته... جذبها إلى جانبه تمامًا في المكان الذي نهضت لتجلس فيه !! كانت من الأساس همت بالنهوض من مكانها،؛ لتجلس إلى يمينه لتتأمل عن قرب "الحسنة" الكبيرة التي تميز وجهه كثيرًا... وسرحت... وراحت تحكي مع نفسها وفي نفسها... كيف أن وجهه اليمين يختلف تمامًا عن وجهه الشمال!، كم هي لطيفة ومحببة بل إنها تميز شيء مافي شخصيته بشكل ما غير محدد وغير مباشر لكنها.. تحبها جدًا ! كانت هذه "الحسنة" أو "الشامة" كما أخبرها يومًا بشكل عارض أن والدته تدعوها، هي حلقة في سلسلة التأملات اللانهائية لملامحه... منذ أن رأته في أول مقابلة للعمل وهي واقعة في غرامه، وغرام تفاصيل وجهه الحادة والطيبة.. حتي إنها كذبت في المقابلة الأولى، وأدعت أنها تتقن الإلمانية لأنه كان من ضمن المواصفات المطلوبة لشغل وظيفة سكرتيرته.. وحينما انتهت المقابلة اتجهت مباشرة إلى معهد "جوته" لتحجز مقعدًا في أول "كورس" قادم للغة الألمانية، وحينما هاتفتها سكرتيرتة السابقة لتحديد المقابلة الثانية، والتي تعني أنها اجتازت الأولى لم تصدق نفسها.. ليس لأن هذه الوظيفة أحسن ما أمكنها الحصول عليه.. ولا لأن مميزاتها كانت الأقوى بل لأنه كان الأروع منذ اللحظة الأولى، فمنذ هذه المقابلة وهي توقفت عن إجراء مقابلات أخرى اتنظارًا لقراره.. وكأنها ولو بلا شعور لم تكن تريد أن تعطى ولو نسبة بسيطة لعدم قبوله لها!!! وقد كان! ومنذ اللحظة الأولى في العمل لديه وهي تدرس كل التفاصيل المحيطة به، وتتحين أي فرصة لتعلم الجديد في مجال العمل لكي تبهره وتؤكد له أنه لا غيرها سيكون عونا كمثلها له! فحينما عرض على الشركة مشروعًا جديدًا، لم يكن نشاطه معتادا، هناك سارعت بأخذ التفاصيل وحجزت من جديد فس دورة ال"power point" و"الأتوكاد"، هذه المهارات التي أبدًا لا تلزم عملها العادي كسكرتيرة، لكنها مازالت بلا وعي تريد أن تبهره.. وقد كان.. بعد عام من العمل لديه أصبح لا يجري مقابلة ولا يأخذ قرار عمل إلا وكانت جزء فاعل في كليهما.. أصبح واثقا.. أنها أفضل ممن جاء ومن سيجيئ بل أصبح يعاملها في أحيان على إنها صانع القرار... وحققت المراد. لكن العمل بحد ذاته لم يشغل لها بالًا يومًا.. وهي فتاة جميلة مدللة من عائلة ميسورة.. اعتادت أن تعمل منذ تخرجها بل من قبله بهدف الاندماج والتعلم وكسر الملل والإحساس بالذات.. ولكن معه كان الأمر مختلف فقد كانت تنفق في أحيان كثيرة على ملابسها وعطورها والدورات التي تدرسها لإثارة إعجابه، ضعف ماتجنيه من عملها معه، لكنها كانت سعيدة وهي تقترب منه، سعيدة وهي تزرع بذور الثقة وترويها وتراقبها وتجنيها.. كانت سعيدة لأنها تراه. منذ اليوم الأول، وعيونها تعمل كالكاميرا الرقمية عالية التقنية.. شديدة الحساسية.. أصبحت ملامحه منهجا ل"كورس" مستمر في حياتها.. تدرس أحدها يوميًا، وقد يستمر أحدهم لأكثر من يوم.. ففي البداية كانت عيونه تلك الصغيرة الدائرية الصافية ذات الرموش القصيرة الكثيفة السوداء.. أحبت عيونه بجنون لدرجة أكثر من مرة حينما سرحت فيهما وهو يحدثها في أمر ما لدرجة لم تسمع ماقال.. بل تخيلت. ومن عيونه لأنفه القيصري القصير لوجنتيه الرجوليتين.. وحتى أسنانه البيضاء الصغيرة التي تشبه إلى حد كبير أسنان الأطفال اللبنية، رغم تجاوزه الخامسة والثلاثين، لم تسلم من فحصها الدقيق! كانت تحبه لدرجة أنها أرادت أن ترسم "بورتريه" من مشاعرها الخاصة، وداخل مشاعرها الخاصة، لكل ملامحه بدون إغفال أي تفاصيل ولو كانت بسيطة. ظلت طوال العام الأول للعمل على هذه الحال.. تعمل بجد لم يشهده قبلًا.. تقابله بابتسامة وتودعه بابتسامه وقليلًا جدًا مايخرج كلامهما معًا عن إطار العمل هي نفسها لاتعلم لماذا بل وتتعجب!! لا تعلم لماذا رغم كل هذا العشق لم تحاول يومًا لفت انتباهه لها كأنثى وليس كموظفة.. لماذا لم تهاتفه يومًا بعد العمل بلا سبب لتسأل عنه، ولماذا لم تضع صورة من صورها التي تحكي الكثير عنها على مكتبها الخاص كما اعتادت في الوظائف السابقة، لماذا لم تطلب "إيميله" الشخصي بأي حجه لتحدثه أحيانا بعيدًا عن العمل، ولماذا أصرت عدم الذهاب حينما دعاها إلى مرافقته لحفل زفاف أحد الزملاء، ولماذا لم تستغل كل هذه الفرص، هي نفسها لا تعلم؟! قالت لنفسها مرة إنها لا تريد أن تبدو رخيصة أو أن تزرع بداخله صورة ل"علاقة المدير والسكيرتيرة الحسناء" فهي تعلم أنها مختلفة، وقالت مرات أخرى أنها لا تريد أن تبدو مهتمة حتى لا تصدم حينما يفاجئها ذات صباح بدعوة لحفل خطوبته. قالت كثيرًا.. ولم تقتنع يومًا بشيء مما قالت.. لكنها ظلت على هذا الحال تقتل نفسها عملًا لتسعده وتسهل حياته.. وتتفرس في ملامحه بقوه حتى تحفظها وترسمها وتلونها داخلها. وفي هذا الصباح ذهبت كالعادة إلى مكتبها مبكرة قبل وصوله، وجهزت له أوراق وملفات اليوم، ثم دخلت مكتبه، وأدارت "التكييف"، وأشعلت البخور التي عودته إياه خوفًا على صدره من كيماويات المعطرات، وأغلقت الباب وراحت في جلسة التأمل الصباحية، التي تدوم غالبًا من عشرة إلى خمسة عشر دقيقة يوميًا، في صورته وأمه التي وضعها على مكتبه، وهي ترسم ابتسامة شد ماتنم عن عشق حقيقي لهذا الوجه وصاحبه نهضت لتخرج، وأدارت إسطوانته المفضلة في طريقها للخارج لإعداد قهوته التي تعدها له منذ عام ويستمتع بها وهو معتقدًا أن السعي هو من يصنعها.. وكالعاده لا تعلم لماذا لم تشأ يوما أن تخبره حقيقة إنها تصنعها، وأنها تحسب ميعاد وصوله بالدقيقه لتكون القهوة دافئة، لا باردة ولا ساخنة عند حضوره. كانت مواعيده جيدة، وكان يحب عمله كثيرًا لذا لم يتأخر يومًا عن مكتبه إلا وكانت تعلم السبب، دارت هذه الفكرة الأخيرة برأسها فابتسمت مزهوة به وبها، كانت تدير مقبض باب المطبخ حينما رن هاتفها المحمول، قبضت لا تدري لماذا، وأسرعت إليه ..إنه رقمه "استر يا رب" جهرت بالدعاء قبل أن تضغط زر الإجابة.."الو".. وجاء على الجهة الأخرى "صباح الخير يا مدام أنا أسف على الإزعاج".. ردت في رعب لم تعرفه قبلًا "مين معايا"، "أنا أسف بس الأستاذ أحمد عمل حادثة ولقينا رقم حضرتك على الموبايل بتاعه... اطمني هو بخير" لم تتملك إرادتها وارتمت على كرسيها، وبيد تشبه المشلولة التقطت قلمًا لتدون عنوان المستشفى. لم تأخذ المصعد.. ركضت على سلالم المبنى الفخم حيث تقع الشركة.. رآها زملائها في المدخل.. ألقو السلام ولم ترد سألوها عما هي فيه ولم تسمع ظلت تجري حتى وصلت لسيارتها.. كان السايس مازال يغسلها حينما ركبت وأدارتها بلا وعي وانطلقت. في الطريق.. جعلت تمسح الماء والصابون الذي كان مازال يتساقط على الزجاج الأمامي بالمساحات وكأنها أمطار عينيها التي لم تطاوعها علي الهطول "علشان متبشرش عليه". دخلت تعاندها الخطى إلى مكتب استقبال المستشفى.."أحمد لو سمحتي" ابتسمت موظفة الاستقبال لطمأنتها.. كررت "أحمد صلاح الدين"، "آه حضرتك المدام؟ ثانية واحدة" وقبل أن تعقب.."الدور السادس.. غرفه 212" ذكّرها رقم الغرفة بعطرهما المفضل.. "أنا في أيه ولا أيه.. يا رب استر" نهرت نفسها سريعًا في طريقها للمصعد.. نست كل الأذكار التي اعتادت أن تتلوها سرًا ليحفظه الله.. كل ما نطق به لسانها "يا رب خليهولي". خرجت من باب المصعد، مواجهة له رأت أمه تخرج من الغرفة مع الطبيب أسرعت إليها وبلا وعي قالت "أحمد ماله يا ماما؟"، ابتسمت الأم التي لم تقابلها يومًا وردت "الحمد لله قوي.. ادخليله" وأكملت حديثها مع الطبيب.. فتحت باب غرفته ويداها لا تقويان على ذلك.. رأته.. بكت... كان راقدًا في سرير المستشفى الأبيض مرتديًا حلة سوداء جديدة، بلا رابطة عنق كما يحب، وإحدى قدميه في الجبس، وعلامات خدوش بسيطة على الوجه الحبيب.. اقتربت من السرير ولسانها لا يكاد ينطق وصوتها لا يكاد يسمع ودموعها المنهمرة تحجب نصف الكلام .. "مالك.. أيه اللي حصل؟" ابتسم حتى برزت أسنانه الصغيرة البيضاء، وأغمضت عيناه الصغيرة الصافية.. طمأنتها هذه الابتسامة إلى حد ما.. ورد ليريحها "أنا تمام الحمد لله بسيطة" قالها بهدوء رابطًا على يدها التي امتدت إلى جبينه بلا شعور! جلست صامتة كالعادة.. تزداد دموعها انهمارًا كلما نظرت إليه.. ودخلت أمه وخرجت أكثر من مره وهي لاتزال جالسة وصامتة. أعطاها تليفونه المحمول، وطلب منها أن تتصل بالعميل الذي كان يجب أن يقابله اليوم لتعتذر له.. خرجت من الغرفة لتجري المكالمة.. إنها أول مره تمسك فيها بتليفونه الذي يفوح بعطره ويطمئنها أنه مازال موجودًا.."الحمد لله" همست سرًا قبل أن تطلب الرقم.. وأنهت المكالمة ولكنها لم تستطع أن تغلب فضولها الأنثوي لتصفح الهاتف.. صوره واأرقامه وقائمه مكالماته.. وحين وصلت لآخر المكالمات الصادرة صدمت.. لوجود رقم يحمل اسم "المدام" كادت تفقد الوعي.. غير إنها رأت الرقم المدون تحت الاسم.. إنه رقمها! لقد أعادت النظر كثيرًا حتى تتأكد.. إنه هو رقمها لكنها لم تفهم.. بل لم ترد أن تفهم، عادت إليه وأعطته الهاتف وهي في حالة من الذهول السعيد! "عايز أقولك حاجة بالمناسبة العظيمة دي".. قال ضاحكًا فأحرجتها ضحكته من توترها وشرودها.."اتفضل".. أخرج من جيبه علبة صغيرة فتحها أمامها.. ها لها الخاتم الماسي الذي أطل منها.. لم تفهم.. بل لم ترد أن تفهم!.. باغت شرودها "تتجوزيني؟".. فأجابته "بحبك" دمعت عيناه على الفور.. وسأل "ليه عمرك ماقولتيلي".. وردت "عيوني بتقول"!