تأهبت لاستقبال وجبة دسمة من المعلومات لدى الدكتور عصمت سيف الدولة رفيقى الجديد فى المرحلة القادمة، حيث سكنونى معه فى زنزانة «29» فى عنبر ألف فى ليمان أبى زعبل. وقد لا يعلم البعض أن معظم ثقافتى حصّلتها عن طريق السماع والممارسة، وأن القليل من ثقافتى هو الذى حصلته من القراءة، لكن هذه هى حقيقتى.. المهم أن الاستعداد كان قائماً على قدم وساق لاستضافتى فى زنزانة «29»، وإذ بنا نفاجأ ب«انتباااااه» طويلة جداً، يعنى دخول رتبة كبيرة من باب العنبر، وفعلاً دخل علينا الزنزانة العميد (.....) وهو يضحك قائلاً: - مالكش نصيب يا دكتور عصمت فى ضيفك العزيز. فقلت بانزعاج حقيقى: - ليه كفى الله الشر؟ طبعاً أمن الدولة رفض وجودى مع الدكتور عصمت. فضحك الرجل قائلاً: - لأول مرة يطلع أمن الدولة مظلوم. قلت: - أمّال مين ابن الرزلة؟ فقال الرجل: - ماتكملش.. دول حبايبك يا عم. قلت: - حبايبى مين؟ فقال: - الطلبة... - وتفتكر أعمل إيه انا دلوقتى يا دكتور؟ قال ضاحكاً: - تاخد بعضك دلوقتى وتروح تثبت حضورك عندهم.. ماذا وإلا. قلت: - لا.. طب وهوّ انا اقدر على ماذا وإلا دى؟ واعتنقنا، الدكتور عصمت سيف الدولة وأنا، وانطلقت إلى العنبر الجديد لأجد الطلبة متجمهرين أمام باب العنبر وكأنهم كسبوا معركة حربية، ثم بدأوا ينشدون: شيّد قصورك ع المزارع من كدِّنا وعمل إيدينا والخمارات جنب المصانع والسجن مطرح الجنينة واطلق كلابك فى الشوارع واقفل زنازينك علينا وقل نومنا فى المضاجع آدى احنا نمنا ما اشتهينا واقفل علينا بالمواجع احنا اتوجعنا واكتفينا وعرفنا مين سبب جراحنا وعرفنا روحنا والتقينا عمّال وفلاحين وطلبة دقّت ساعتنا وابتدينا نسلك طريق ما لهش راجع والقصر قرّب من عنينا المهم أن العميد محمود فؤاد، المعادى لكل ما هو وطنى وشريف، كان متسمراً فى مكانه أثناء أداء هذا النشيد والصفار يغطى وجهه تماماً، وإذا بتيمو العجيب، الذى هو تيمور الملوانى أسد كلية هندسة الإسكندرية، يهجم عليه قائلاً: - بلّغ أنور السادات فوراً إنه إذا لم يسكن الشاعر أحمد فؤاد نجم فى عنبر الطلبة فإن تيمور الملوانى سوف يتخذ ما يراه مناسباً من إجراءات. وقبل أن يستوعب العميد البائس هجمتُ عليه وقلت: - كده يا سى نيلة أديك غفلقتها.. ياللا بسرعة اخفى من هنا قبل ما تولع. وفوجئت به فعلاً يهرول فى اتجاه باب الخروج، وهنا ضحك حسام سعد الدين طالب طب القصر العينى، فظن تيمور أن حسام يضحك عليه فصاح قائلاً: - بس يا مباحث.. بتضحك على إيه يا مباحث؟ - وهذه إحدى تجليات ديمقراطية الرئيس السادات ذات الأنياب. قال فى شبه استسلام: - يبدو أن هذه اللعبة لا نهاية لها. قلت: - كيف؟ إذا كانت الحياة نفسها لها نهاية. قال: - حياة الفرد وليس حياة المجموع. قلت: - وهذا ما أعنيه بالضبط. ضحك بشدة وقال: - أعوذ بالله من دماغك. قلت: - مالها دماغى؟ قال: - مليانة سم. قلت: - مش أحسن ما تكون مليانة سراب وغرور كاذب. قال: - الكلام خدنا ونسينا المهم. قلت: - وهو؟ قال: - وهو تسكينك فى غرفة 9 بالدور الرابع. قلت: - مع من؟ قال: - لا يا سيدى، مع أجمل ناس، مع الأستاذ نبيل الهلالى والأستاذ زكى مراد والأستاذ إبراهيم عبدالحليم والأستاذ رشدى أبوالحسن. ضحكت وقلت: - غرفة المعاشات يعنى؟ وضحكنا معًا.