شعبة الدواجن تتوقع ارتفاع الأسعار بسبب تخارج صغار المنتجين    إدانة عربية واسلامية لمصادقة الكنيست الإسرائيلي على ضم الضفة والأغوار في فلسطين    وزير الخارجية يتوجه إلى السنغال في المحطة الخامسة والأخيرة من جولته في غرب إفريقيا    تقرير: بايرن يقدم عرضه الجديد ل ليفربول من أجل لويس دياز    خبر في الجول - الزمالك ينتظر قرار فيريرا لضم مدافع حسنية أغادير    إبراهيم عادل: أبو تريكة قدوتي.. وهدفي في باراجواي اللحظة الأسعد بمسيرتي    وولفرهامبتون يضم أرياس من فلومينينسي    جامعة الإسكندرية تبحث التعاون مع التأمين الصحي الشامل لتقديم خدمات طبية متكاملة    مصر تستهجن الدعاية المغرضة لتشويه دورها الداعم لقضية فلسطين    إعلام فلسطيني: 89 شهيدًا و453 مصابا بنيران جيش الاحتلال خلال 24 ساعة    "الشعب الجمهوري" يشيد بجهود مصر في دعم غزة وإدخال المساعدات الإنسانية    رسميا.. الأهلي يعير كباكا إلى زد لمدة موسم واحد    قرار رادع .. لسكة الحديد تنهى خدمة مشرف قطار بسبب تأخير الركاب نصف ساعة بمحطة تلا    غسلوا 75 مليون جنيه من تجارة المخدرات.. الداخلية تضبط 3 متهمين    ضبط سائق يقوم بحركات استعراضية خطرة خلال حفل زفاف بالإسكندرية    تحرير 93 مخالفة تموينية بالمنيا    البنك المركزى الأوروبى يبقى معدلات الفائدة دون تغيير    الصحة تشارك في المؤتمر الدولي السابع عشر لمناظير المخ والعمود الفقري    ماكرون وزوجته يرفعان دعوى تشهير ضد المؤثرة الأمريكية كانديس أوينز    الداخلية تضبط طرفي مشاجرة بالأسلحة البيضاء بين سائقي توك توك في العمرانية    بسبب السرعة الزائدة.. مصرع عامل ديلفري إثر انقلاب دراجته النارية بالتجمع الخامس    اليوم.. عروض لفرق الشرقية والموسيقى العربية بالعلمين ضمن صيف بلدنا    إيهاب توفيق والموسيقى العربية في افتتاح صيف الأوبرا 2025 باستاد الإسكندرية    إقبال جماهيري على فعاليات "المواطنة" بالمنيا.. "الثقافة" تُضيء القرى برسائل الوعي والانتماء    طور سيناء تطلق سوق اليوم الواحد بتخفيضات تصل 25% لتخفيف العبء عن المواطنين    المشاط تدعو الشركات السويسرية للاستفادة من آلية ضمانات الاستثمار الأوروبية لزيادة استثماراتها في مصر    الشباب والرياضة تتلقى الاستقالة المسببة من نائب رئيس وأمين صندوق اتحاد تنس الطاولة    «جمال الدين» يستعرض إمكانات «اقتصادية قناة السويس» أمام مجتمع الأعمال بمقاطعة تشجيانغ    لطلاب الثانوية العامة والأزهرية.. شروط قبول بالأكاديمية العسكرية المصرية (إنفوجراف)    المجلس الأعلى للإعلام يوافق على 21 ترخيصًا جديدًا لمواقع إلكترونية    عمرو الورداني: نحن لا نسابق أحدًا في الحياة ونسير في طريق الله    بدء التشغيل الكلي لمجمع المواقف الجديد في بني سويف    قبل 150 يومًا من انطلاق "كان 2025".. الفراعنة ملوك الأرقام القياسية    بقيمة 227 مليون جنيه.. «صحة المنوفية» تكشف حصاد العلاج على نفقة الدولة خلال 6 أشهر    سيدة على مشارف ال80 عاما تغادر محطة الأمية في قطار التضامن «لا أمية مع تكافل»    نتيجة الثانوية الأزهرية بمحافظة كفر الشيخ.. رابط مباشر    انفجار لغم يشعل صراعا بين كمبوديا وتايلاند.. اشتباكات حدودية وغارات جوية    وزير الري يتابع جاهزية المنظومة المائية خلال موسم أقصى الاحتياجات    بنسخ خارجية لمختلف المواد.. ضبط مكتبة بدون ترخيص في الظاهر    تحليل رقمي.. كيف زاد عدد متابعي وسام أبو علي مليونا رغم حملة إلغاء متابعته؟    جامعة قناة السويس تُعلن نتائج الفصل الدراسي الثاني وتُقرّ دعمًا للطلاب    «خدمة المجتمع» بجامعة القاهرة يناقش التكامل بين الدور الأكاديمى والمجتمعى والبيئي    شهدت التحول من الوثنية إلى المسيحية.. الكشف عن بقايا المدينة السكنية الرئيسية بالخارجة    3 أفلام ل محمد حفظي ضمن الاختيارات الرسمية للدورة ال 82 لمهرجان فينيسيا (تفاصيل)    نقابة المهن السينمائية تشيد بمسلسل "فات الميعاد"    معسكر كشفي ناجح لطلاب "الإسماعيلية الأهلية" بجامعة قناة السويس    عمرو الورداني: النجاح ليس ورقة نتيجة بل رحلة ممتدة نحو الفلاح الحقيقي    لو لقيت حاجة اقعدها وقت قد ايه لحين التصرف لنفسي فيها؟.. أمين الفتوى يجيب    علي جمعة يوضح معنى قوله تعالى {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ}    رئيس الوزراء يتابع جهود منظومة الشكاوى الحكومية خلال النصف الأول من 2025    "مدبولي" يؤكد أهمية بناء الوعي في تشييد حائط صد ضد نمو الشائعات    "الجبهة الوطنية" يعقد أول لقاء جماهيري بالإسماعيلية لدعم مرشحته داليا سعد في انتخابات الشيوخ    713 ألف خدمة طبية قدمتها مبادرة «100 يوم صحة» خلال أسبوعها الأول في القليوبية    تفاصيل عملية دهس قرب بيت ليد.. تسعة مصابين واستنفار إسرائيلي واسع    الإسكندرية تحتفل بتاريخها.. في "يوم وداع الملك"    «كتالوج»... الأبوة والأمومة    مدنية الأحكام وتفاعلها مجتمعيًّا وسياسيًّا    أعراض برد الصيف وأسبابه ومخاطره وطرق الوقاية منه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بالصور| 5 ساعات فى «القدس المحتلة»
«الوطن» داخل المسجد الأقصى وكنيسة القيامة وشوارع «زهرة المدائن»
نشر في الوطن يوم 14 - 11 - 2013

لحظات صمت، سكون قاتل، تاريخ من الصراع يتجلى أمام البصر، «كيف تنظر فى يد من صافحوك فلا تبصر الدم؟»، «لا تتلفّت، كن حذرا، لا تستخدم الكاميرا».. تحذيرات من «عامر»، سائق الأتوبيس، قبل الحاجز الأمنى الإسرائيلى، الحواجز الحديدية تصنع عائقا، والحواجز النفسية تخلق مليون اضطراب، «عيوننا إليك ترحل كل يوم.. يا قدس، يا زهرة المدائن».
فى تمام الثانية ظهرا، كان الأتوبيس المزين ب«لوحة معدنية صفراء» يبدأ فى التحرك من مدينة رام الله، «لأجلك يا مدينة الصلاة».. هكذا تشدو «فيروز» بصوت هادر من هاتف أحد المتشوقين للزيارة، تمثل له الأغنية كل معانى الحنين وخيالات أخرى لصور يغوص فيها تفكيره عن مكان يعرفه، بصورة أو تقرير تليفزيونى على أقصى تقدير، فيخرج مرة بدمعة، وتارة بحسرة، وثالثة بلوعة، وأخيرة بشجن يعقبه شوق قد يتبدد بعد دقائق حين يقترب من أسوار القدس.
نحو 15 كيلومتراً يقطعها الأتوبيس من رام الله حتى القدس الشرقية، على طريق يشبه الطرق الدائرية بمصر يخطو السائق، على اليمين لافتة خضراء تشير إلى «القدس - أورشليم»، كلما تقدم الركب بدأت الكلمة المدونة على اللافتات تأخذ شكلا مغايرا على مستوى الحجم، فتأخذ «أورشليم» فى الكبر وتتقلص «القدس» بجوار كلمات عبرية، حالة من الغمامة تغلف الجو، تضفى غموضا على الرحلة، «جوانب ضيقة» عبارة مكررة على الطريق. الجدار العازل -على طول 170 كيلومتراً- تتقدمه أسلاك شائكة كأن الاحتلال يعلن جبروته -وجبنه- أكثر من مرة، على ذلك الحائط الذى تُصلب عليه أحلام الفلسطينيين يومياً.
قرابة 3٫5 مليون فلسطينى محرومون من زيارة القدس إلا بموافقة أمنية إسرائيلية، والحواجز الأمنية على الطريق لا تسمح إلا بمرور السيارات التى تحمل لوحات أرقام صفراء؛ لذا كان السبيل الوحيد هو الدخول عبر إحدى السيارات هروبا من «ختم إسرائيلى»، ومغامرة فى المرور دون توقيف.. بعد نحو 20 دقيقة تبدأ اللوحات البيضاء الخاصة بقلب فلسطين تخفت أمام اللون الأصفر مع الاقتراب من حاجز «الزعيم»، أول كمين إسرائيلى على الطريق، تنظر الفتاة الثلاثينية بزيها العسكرى المغلف بعلامة داوود صوب السيارة فلا تبالى، بفعل اللون الأصفر، يتنفس الركاب الصعداء، جميعهم يحلم بزيارة لا يُسمح بها لأهل البلد الأصليين، ويدعون بها فى صلواتهم.. بالمرور من الحاجز تختلط الكلمات: «كده إحنا فى إسرائيل.. لا، اسمها القدس»، على يمين الطريق منطقة للعرب وفى الشمال للإسرائيليين، لا تحتاج عين خبير للتفرقة؛ فالمبانى المهملة لأصحاب الأسر، أما المتينة ذات الألوان الزاهية فلأولئك الجاثمين على الصدور منذ 65 عاما.
يمر ترام على الطراز الأوروبى، الشارع رقم «1» يحمل ذكرى فصله لأماكن العرب عن المستوطنين قبل عام 1967، قبل أن تتبدل الأماكن لينعم الإسرائيليون بأماكن العرب ويضحى الفلسطينيون فى معزل. التليفونات المحمولة تستقبل رسائل بالدخول فى منطقة جديدة لها حسابات مختلفة. تلميذ فى مدرسة الحاخامات يعبر الطريق، ذو لحية كثة، مرتديا سرواله الأسود، يهز رأسه باستمرار متمتما، من المتشددين دينيا أو كما يُقال «رهان الأحزاب اليمينية الإسرائيلية فى الانتخابات»، تمر سيدتان ترتديان الحجاب، إحداهما بملامح عربية وأخرى أوروبية، الأولى مسلمة والأخيرة من اليهود الأصوليين، يقول السائق: «محافظون أكثر من المسلمين»، بدأ السائق فى الحديث بعد مروره من الحاجز الأمنى بسلام.. «مصنع الخزف الفلسطينى» أول كلمة تخص أهل المكان، تؤشر للدخول إلى القدس الشرقية وسكانها «المقدسيين»، مسجد «الشيخ جراح» على بعد أمتار، الوجوه عربية بامتياز، تلهو الصبايا الحاملات حقائب الدراسة، وتتعالى أصوات البائعين «تفاح يا وجع الراس»، «قبر السيد المسيح» لافتة تعلو حائطا، فى إشارة إلى اعتقاد إحدى الطوائف المسيحية فى ذلك، بينما الأصح -حسب المسيحيين- أن قبره داخل كنيسة القيامة، 50 مترا تفصل عن «باب العمود»، أحد أبواب القدس الرئيسية، القلوب تتقافز، البهجة تحتل الأعين، الشوارع تنطق بالعبق، الأحجار تشهد على تاريخ مجيد، والألسن تصمت من أثر الرهبة، 34 سلمة من ذلك الدرج الرخامى العتيق تصل بك إلى مدخل «الباب» الذى أعاد بناءه السلطان سليمان القانونى عام 1538، الطريق ينقسم نصفين، على اليمين «خان الزيت» المرتبط بالأسواق وكنيسة القيامة، والثانى على اليسار ويسمى طريق «الوادى» الموصل للمسجد الأقصى.. النساء يجلسن لبيع الخضراوات، حاخام يهودى يفاصل فى الشراء من محل بقالة، عجوز تسير ببطء من ثقل ما تحمل: «من يوم ما اتخلقت وأنا هنا».. بضحكة صافية ووجه شامى اجتمعت فيه تفاصيل الملامح الفلسطينية تقولها «أم طه» الجالسة على جانب «خان الزيت» تبيع الخضرة، تتودد صاحبة ال74 عاما للجميع، فيما تشكر صاحب ذلك المحل الجالسة أمامه كونها لا تدفع إيجارا ولا يؤذيها فى عملها. على اليسار «طريق الآلام»، «الذى صار فيه المسيح حاملا الصليب الكبير فوق كتفيه»، يقولها «منتصر»، المرشد السياحى، لفوج يرافقه، يشكو «منتصر» من فقد ارتباطه بالفلسطينيين، معتبرا أن أهل الأقصى بمعزل عن الجميع: «الأصعب أننا أصبحنا لا نعرف الفلسطينيين ولا يعرفوننا، نحن فى سجن فرضه علينا الاحتلال».
مجموعة من الشقراوات يرتدين قمصانا بيضاء مدونا عليها عبارة «بحب فلسطين» بالإنجليزية، قبة مسجد صلاح الدين تظهر من بعيد، نظرات أصحاب المحال تشوبها حسرة على وقف حركة البيع، وخوف من تهجير تهدد به إسرائيل دوما.
«نواجه الصلف الإسرائيلى».. تقول أمينة عبدالحق، محامية حقوقية تدافع عن المُهدمة بيوتهم والمهجرين، وتتابع أنها تتعامل مع الإسرائيليين بحكم عملها فى المحاماة ضد تجاوزات الصهاينة، لكن بمجرد أن تطأ قدمها خارج مقر العمل لا تنظر قبلهم، مشيرة إلى حالة الحصار المتعمد للتضييق على السكان المقدسيين. داخل محل الأحذية الكائن بشارع «راشيل» يجلس عم «ظافر صندوقة» يفند مصاريفه الشهرية عاقدا مقارنة بين قلة الزبائن وزيادة أعبائه؛ فالإيجار وحده 2000 دولار شهريا وسط إغلاق حدود المدينة، التى يتوقف معها الحال، علاوة على الكثير من التضييقات الإسرائيلية؛ كمنعهم وجود موقف للسيارات خاص بالسوق؛ فالأمن الإسرائيلى يتعمد تغريم أصحاب السيارات حتى يزهدوا الحضور للمكان، على المقابل هناك تجهيز تام للأسواق الإسرائيلية ودعم حكومى للأسعار. بينما يضيف «صندوقة» أن هناك عدة دفعات ضريبية يتكبدها (17% على المشتريات و20% على الدخل ونسبة للتأمين على العمال)، قبل أن يوضح أن هناك ضريبة تسمى «الأرنونة» تُفرض على المنازل مقابل خدمات تنظيف الشوارع، مؤكداً أن كل تلك الوسائل ليس لها إلا غرض واحد «تطفيش باقى سكان القدس».
بباب حديدى أخضر ورأس جرانيتى مثلث، يطل مسجد «عمر بن الخطاب»، الممتد من طريق مارى الأنصارى، «للمصلين فقط» شرط يعلو المكان العتيق، على بعد 12 خطوة طريق القديسة «هيلانة» المفضى إلى كنيسة القيامة عبر 20 سلمة.
8 أعمدة رومانية تحيط الباب الخشبى القديم قدم المسيحية. على يسار باب الكنيسة يجلس «حفيد عمر بن الخطاب» أو بالأحرى «وجيه»، صاحب ال65 عاما، على دكة خشبية، خادم الكنيسة ذو البشرة ناصعة البياض، المسلم المسئول عن فتح وغلق أبواب الكنيسة، يصلى دوما فى مسجد «عمر».. القصة تعود إلى ليلة المعراج، 27 رجب عام 583 هجرياً، حين دخل صلاح الدين الأيوبى القدس، فأعطى بعدها مفتاح الكنيسة لعائلة تسمى «آل عضى» أو «آل جودى»، وأمّنهم عليه وباتت «آل عضى» تشرف على المفتاح وتتوارثه، فيما يعمل على فتح وغلق الباب أحد أفراد عائلة «آل النسابى» ومنهم «وجيه».
على اليمين سلم لولبى ضيق يؤدى إلى مكان الصلب، هكذا أشار «منتصر»، المرشد السياحى، لفريقه، الصعود ليس يسيراً، لكن اللهفة جعلت قدما «حنان بطرس» تطيران صوب المكان، المسيحية المصرية لم تتخيل أن تحج لكنيسة القيامة يوماً؛ فالكنيسة المصرية تعتبر الأمر تطبيعاً، فيما توجهت «بطرس» إلى ذلك التمثال الفضى لجسد المسيح، الواقفة على يساره «مريم المجدلية» واضعة يدها على صدرها فى شفقة، وعن يمينه «مريم العذراء» ترفع أكفها بالدعاء له، الشموع تتلألأ، الشمعدان بلون ذهبى يعلوه رأس أحمر، وبالأسفل صخرة يقال إنها مستقر الصلب، على ركبة ونصف يدخل الزائرون أسفل الصخرة يحصلون على البركة، حسب المرشد السياحى، تنتظر «حنان» دورها فى طابور ترتدى نساؤه الحجاب، تتعالى أنفاسها، تلمع عيناها، تدخل بصعوبة أسفل القبو، تخرج سريعا فى ذهول، تسيل الدموع، تتوجه قبل لوحة كبيرة يزيد عرضها على 10 أمتار، تحكى قصة الصلب، من رجل يُنزع عن جسده الصليب، ثم يُغسّل، ثم يُذهب به للقبر، أطياف عدة تملأ المكان، من أقاصى أفريقيا ومن أوروبا الشرقية، من الهند وكوريا، برازيلية وصديق مكسيكى، شاب أمريكى وعجوز أردنى، الجميع يُقبّل تلك الرخامة القديمة «مكان غسل المسيح» يعقب «منتصر»، تهرع «حنان» صوب ذلك المكان المزدحم والملتف طابوره فى شكل دائرى كامل، تعلوه صورة مرسومة للمسيح أسفلها باب صغير يؤدى إلى باب أصغر ينتهى بقبر المسيح، الإضاءة الخافتة تدعو للخشوع، تُقبل الفتاة المصرية فى ترقب، تختلط مشاعرها، تدعو لكل من تعرف، حتى لمصر «الدولة»، تحاول أن تنزع يديها عن القبر كى تعطى مساحة للغير، فيجذبها قلبها للدعاء. تخرج فى حالة توحد: «إحنا إزاى محرومين من الحج طول الوقت ده؟ كنت شايفة إن الكنيسة عندها حق فى عدم الزيارة، بس لما جيت اكتشفت حجم الظلم اللى اتعرضنا له».
فى طريق «عقبة الخالدية» الهادئ بعيدا عن صخب الأسواق تلمح قبة الصخرة بلونها الذهبى اللامع، دون أن ترى جسد المسجد، يهفو القلب، لا يصدق الجمع أن اللحظة قد حانت، أهل «الخالدية» معتادون على رؤية المكان، لكن غصة فى القلب يشرح سببها أحمد نابلسى، صاحب العشرين عاما، بقوله: «لسه الجامع أسير، بس إحنا من حماته ليوم الدين».. مبانٍ تحمل أسماء دول عربية لترميم الآثار، سماء صافية عقب اقتراب الشمس من الغروب، الساعة تدق الرابعة عصرا. يجرى 4 أطفال بوجوه منتشية، وأحلام كبيرة أهمها زوال الاحتلال؛ فليس غريبا أن يقول محمود أبوكدوش، الذى لم يتخطَّ عامه السادس: «لما بنشوف اليهود بنطبش عليهم الحجارة.. إحنا فلسطين، وإسرائيل ما لها الأرض»، قبل أن يضيف ببراءة: «إخص على الشيطان واليهود معا»، يضحك رفاقه قبل أن يلح «عيسى» على الحديث ليؤكد أنه يصلى فى «الأقصى» ليدعو الله أن يحرره ثم يعقب: «وكمان عشان يزيد حسناتنا وفلوسنا ويخلينا نكبر ونبقى ملاح».
بالقرب من باب «القطانين» يقف جنديان إسرائيليان يتحدث أحدهما العربية، يطلب جواز السفر، فيرحّب بالمصريين، دون أن يأتيه الرد «إنها الحرب قد تثقل القلب ولكن خلفك عار العرب.. لا تصالح».
الباب الحديدى يُفتح بصوت مزمجر، تظهر القبة، يتضح الجامع أكثر، يُغلق الباب من الخلف فتفتح القلوب شراعاتها لاستقبال نسيم العشق، يسرى الدم فى العروق، الفرحة تحتل الملامح، لون السحاب يرسم مع القبة الذهبية وجسد المسجد الأزرق لوحة فنية باقتدار، تقف ربيعة إسماعيل، القادمة من «الخليل»، غير مصدقة حضورها للمسجد؛ فالمرأة الأربعينية تنتظر منذ سنة وشهرين الموافقة الإسرائيلية على الزيارة.
تحكى «ربيعة»، ذات الوجه المنحوت والعينين الواثقتين: «كنت أرى قبة الصخرة تطل علينا من طريق الخليل، لكن الأسوار كانت تمنعنا».. تصمت برهة لتلمع دمعة فى عينيها. وتضيف: «كنت أبكى وأدعو الله أن يفتح لى أبواب القدس، وأخيرا استجاب لدعائى»، تنفض الدموع عن خديها، تنظر للقبة لتتبدل الدمعة بضحكات صافية، تنطلق لتملأ سكون المكان: «ولدى قالى عايز حاجة حلوة.. ومفيش أحلى من الأقصى».
متحف الأقصى مغلق منذ فترة، تبلغ المساحة الكلية للمسجد الأقصى 144 ألف متر، تشمل «قبة الصخرة، المسجد القبلى -المشهور بالأقصى- المسجد المروانى -تحت الأرض- والمكتبة الخاتنية -نسبة إلى عبدالله الختنى المملوكى»، بينما يحاول الاحتلال زرع عقيدة فاسدة فى نفوس الفلسطينيين بأن الساحات الفاصلة بين الأماكن الأربعة تتبع البلدية ليعتبروها مكانا للتنزه وليست مقدسات للعبادة، حسب الشيخ «عدى رمضان»، إمام متطوع بمسجد قبة الصخرة، مشيراً إلى تعمد الصهاينة إظهار مسجد قبة الصخرة على أنه المسجد الأقصى حتى يتمكنوا من مواصلة الحفر والتخريب.
من هنا، كان الصعود النبوى، قبة الصخرة «أقرب بقعة إلى السماء»، رائحة مسك تفوح من داخل المسجد، قناديل بلون فضية تتدلى بسلاسل من الأسقف، أسقف منقوشة، حلقة علم تقدمها امرأة لنسوة يتحلقن حولها، آلاف الأخشاب والحدايد لترميم المسافة بين القبة والصخرة -بطول 36٫5 متر- تحت إشراف الحكومة الأردنية، أسفل صخرة مجوفة من الباطن ومعلقة فى الهواء، يقبع عدد من النسوة يصلين فى خشوع، مكان لا يزيد عرضه على 8 أمتار هو محراب النبى محمد، فى أقصاه ركن يقال إنه مصلى سيدنا «زكريا».
مرتكناً على عمود داخل مسجد قبة الصخرة، جلس الشيخ «صبحى العبد الله» يستريح من رحلة طويلة من مدينة أم الفحم فى الداخل الإسرائيلى إلى القدس: «أنا هنا كواجب دينى، لا نريد أن نترك المسجد لهؤلاء المستعمرين يعبثون فيه»، كعادته منذ أن ترك القدس فى عام 2004 يأتى الرجل إلى «الأقصى» كل يوم ثلاثاء ليرابط فيه، يقضى الساعات مع رفاقه حتى لا يتركوا المسجد للمستوطنين «نقرأ القرآن ونشارك فى دروس العلم، ونوجد من أجل أن نملأ المسجد ونذود عنه ونمنع الصهاينة من التفكير فى اقتحامه»، يصمت للحظات ويضيف: «غالبا لا يقل عدد المرابطين عن 250 فردا وأحيانا يزيدون».
من بين أربعة أعمدة ونحو 100 متر و19 درجة سلم، يظهر المسجد القبلى (الأقصى)، بقبة بنية اللون، تختفى مع هبوط الدرج، فى منتصف الطريق نافورة صغيرة تهدر بالمياه، تخرج منها صنابير للوضوء، على جنباتها مقاعد رخامية.. الرهبة تقتحم الصدور، الأفئدة تتطاير، العيون تدمع تلقائيا، للمسجد القبلى سبعة أبواب خشبية، يعلو أوسطها اسما «الحسن والحسين»، سيدى شباب أهل الجنة. الشبابيك مصنوعة من الأرابيسك بلون أخضر يمينا وبنية اللون فى اليسار، السقف مقسم لسبعة تقسيمات طولية أوسطها مزركش وعلى اليمين خشبى وفى اليسار قباب بلون الجير، أسماء العشرة المبشرين بالجنة ومعهم عما الرسول (العباس وحمزة) على حوائط مسجد فى رحلته المقدسة، لون السجاد الأحمر يزهو، يضحك الصبية، يقرأ شيخ سبعينى كتاب الله، الشال الفلسطينى تميمة المكان، المصاحف تفتح ذراعيها لتنافس أكف الضراعة للمبتهلين، الدموع تلامس الصدور، شريط ذكريات يمر، ماضٍ وحاضر ومستقبل، أصوات الساجدين تعلو وكأنها تتجاذب أطراف الحديث «يا رب.. حرر مسجدك الأقصى.. اغفر تقصيرنا»، جلال المكان لا تنافسه حدود، «وإنك لعلى خلق عظيم» منقوشة غير مرة على الجوانب.
أنهى الشيخ يوسف عبدالوهاب، أحد أئمة المسجد الأقصى، حواره مع واحد من حراس المسجد ال30 المنتشرين فى جوانب المكان -يحرس المسجد 90 حارسا مقسمين على 3 ورديات- قبل أن يقول بنبرة حزن: «أين أنتم يا عرب؟ لماذا لا تأتون وتنصروننا؟»، مشيرا إلى تعرض «الأقصى» لهجمات يومية من قِبل المستوطنين تحت حماية الشرطة الإسرائيلية، إلا أن الشىء الخطير أن تلك الهجمات تزايدت بشكل كبير وملحوظ بالفترة الأخيرة: «نناضل وحدنا فى ظل صمت عربى وإسلامى غريب.. أصبحنا كالأيتام على مائدة اللئام». وفى المقابل، تفهم إسرائيل الوضع جيدا وتستغله أسوأ استغلال، وناشد الشيخ «يوسف» جميع العرب مناصرة القدس بزيارتها: «ليس صحيحا أن من يأتى إلى هنا يطبّع مع إسرائيل، الرسول، عليه الصلاة والسلام، أتى إلى هنا وكانت تحت حكم غير المسلمين، على العرب أن يزوروا القدس حتى لو بتأشيرة إسرائيلية»، معتبرا الأمر نصرة للقدس وفى وجودهم مساعدة للناس اجتماعيا واقتصاديا.
يؤذَّن لصلاة المغرب، كأن الأذان يُسمع لأول مرة، هنا الكلمات ليست محض دلالة، لكنها سبقت الواقع، فها هو المحراب يسجل «سبحان الذى أسرى بعبده ليلا..»، وها هى القبة والصخرة تشهدان للرحلة، وها هو النبى حاضرا فى الصلوات «إن الله وملائكته يصلون على النبى..»، الصلاة تبعد عن المحراب بنحو 30 متراً للخلف بسبب قلة العدد وبعض الترميمات. فلا يُسمح لغير المقدسيين بالصلاة فى الأقصى إلا لمن تخطى الستين عاما، وفى يوم الجمعة فقط.
14 بابا لساحة الأقصى، 4 منها مغلقة و10 مفتوحة، الأبواب المفتوحة جميعها يمر منها الفلسطينيون، فيما يبقى باب «المغاربة» مخصصاً لليهود، لقربه من حائط المبكى فى عقيدتهم، أو حائط البراق عند المسلمين.. ثلاثة جنود إسرائيليين ينهرهم رجل عربى مسن، يقبض بيديه على مسبحة، بأسنان سقطت بفعل الزمان، 35 عاما لم يغير فيها الحاج «بدر» مكانه، كحارس لباب المغاربة، الرجل الفلسطينى، الذى يتقاضى 1500 دولار شهريا من قبل السلطة الأردنية، يقول: إن مفتاح الباب مع اليهود بعد نكسة 67. يتقن العبرية، يؤكد أن جنود الصهاينة جبناء؛ لذا يرتعدون من صيحاته، تخالط أصوات اللاسلكى فى يده تلك الصادرة عن أجهزتهم، لا يرجو الرجل إلا تحريراً للباب الذى يعمل أمامه كبادرة أمل لفك أسر الاحتلال، غير أنه يقول بحسرة: «منهم لله اللى قتلوه.. لو السادات عايش كان زمانه حرر القدس».
عقب صلاة العشاء، كان الخروج من باب «حطة»، تتخالج المشاعر بين غصة للفراق وحنين للعودة وبهجة للصلاة وتضرع للخالق بأن يكتب لأهل فلسطين أن يستردوا وطنهم المغتصب وللمحرومين من الزيارة «فى القدس سلام آتٍ».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.