السنوات الأخيرة من حياة الشيخ القرضاوى تنسف تماماً العقود السابقة من حياته.. كأن الشيخ يمضى وراء سيرته بماسحةٍ تزيل ما سبق له من علم وفضل. كان الشيخ عنواناً حقيقياً للوسطية والاعتدال، وكانت مؤلفاته بالغة الرفعة والقيمة. لم تكن وسطية القرضاوى من نوع «الوسطية السطحية» التى تشبه حملة العلاقات العامة لمرشحى التيار الدينى، بل كانت «وسطية رصينة» تنهض على معرفة واسعة وعلم راسخ. لكن الشيخ مضى ضد نفسه، ينسخ ماضيه المضىء ويأتى على سيرته المشرقة. بات الشيخ عدواً لنفسه، وعدواً لوطنه، وعبئاً على الدين والدنيا. لقد قرأت باهتمام واحترام ما كتبه الشيخ من قبل فى كتابه «الحلال والحرام فى الإسلام»، ثم قرأت ما كتبه فى كتابه «الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف»، وأعدت مؤخراً قراءة كتابه الرائع «تاريخنا المفترى عليه». ولقد تأملت كثيراً ما يقوله الشيخ فى اللحظة الراهنة وما كان يقوله فى «تاريخنا المفترى عليه»، وأدركت أن الشيخ قد أهال التراب على ما كتب وأصبح واحداً من المفترين على الحاضر والتاريخ معاً. كان الشيخ ثابتاً صامداً ضد الغلوّ والتطرف، واشتبك مع كتابات أبوالأعلى المودودى وسيد قطب دون تردد أو خوف. وانتقد بصريح القول والرأى أكذوبة الجاهلية التى روّج لها المتشددون لينالوا من المجتمعات المسلمة التى لم تذهب وراء تطرفهم وانفلاتهم. لقد كان من رأى أبوالأعلى المودودى -مثلاً- أن التاريخ الإسلامى بكامله هو تاريخ جاهلى، وأن الجاهلية بدأت فى عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان. يقول الشيخ القرضاوى فى كتابه «تاريخنا المفترى عليه»، صفحة 47 وما بعدها: «تناول أبوالأعلى المودودى بعض الصحابة بما لا يليق بصحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الخليفة الثالث عثمان بن عفان. وقد أثبت رأيه هذا فى كتابه «الحكومة الإسلامية». انظر كيف حكَم هذا العلّامة الكبير على الإسلام بالارتكاس فى الجاهلية مبكراً، منذ عهد الصحابة والتابعين والأتباع، وانظر كيف تضمّن هذا الكلام الظلم الكبير للحضارة الإسلامية كلها ووصفها بالجاهلية. لقد وجَّه الأستاذ المودودى ضربة قاضية إلى الحضارة التى نسميها «إسلامية» فى قرطبة وبغداد ودمشق ودلهى والقاهرة.. وقطع أى صلة لها بالإسلام»! ثم مضى الشيخ القرضاوى إلى سيد قطب ناقداً: «عندما تحدث سيد قطب عن سيدنا عثمان بن عفان قسا عليه كثيراً».. «إن كلام المودودى إن الإسلام لم يطبق إلا فى عصر الخلفاء الراشدين فقط، وإن كل ما بعد ذلك مُلك عَضود هو قول غير صحيح». لكن الشيخ القرضاوى الذى قال ذلك قبل سنوات عاد بعد ثورة يونيو 2013 مهاجماً الشعب والجيش، ومصوراً الأمر وكأن فترة الرئيس السابق محمد مرسى هى الفترة الراشدة وأن كل ما قبلها وما بعدها مُلكٌ عَضود! وحين كان البعض يتحدث عن ضرورة الحوار من أجل المصالحة، قال القرضاوى: «الحوار مع من؟ ولماذا؟ المطلوب الآن إعادة الرجل المبايَع إلى منصبه». صوَّر القرضاوى للمسلمين أنه يبكى على سقوط الإسلام، لكنه فى واقع الأمر كان يبكى على سقوط الإخوان. يقول القرضاوى السابق عكس القرضاوى الحالى، ويواصل الآن شطب بعضه بعضاً؛ ففى شأن الأخلاق والسياسة فى الإسلام، يقول الشيخ القرضاوى فى كتابه نفسه: «تاريخنا المفترى عليه»، صفحة 152 وما بعدها: «ربط المسلمون السياسة بالأخلاق، فلم يعرفوا فى تاريخهم نظرية الغاية تبرر الوسيلة والوصول إلى الحق بطريق الباطل، وارتكاب الموبقات لتحقيق هدف نبيل فى نظر صاحبه، بل لا بد من الغاية الشريفة والوسيلة النظيفة. فلا يجوز بحال استباحة الدماء المحظورة من أجل عمل يراه صاحبه خيراً أو طيباً.. فَمَثَلُهُ كمثل من يأكل الربا أو يقبل الرشوة ليبنى مسجداً». ولكن القرضاوى الأخلاقى اختفى لصالح القرضاوى البراجماتى الميكافيللى، فأفتى أثناء حملة الرئيس السابق بأنه يجوز للمواطن الذى يأخذ الرشوة الانتخابية أن يقسم بالله كذباً أو بالطلاق كذباً من أجل الحصول على الرشوة والمال، ما كان سبباً فى صدمة محبّيه ومؤيّديه. والقرضاوى الميكافيللى هو من دعا من فوق منبر مسجد عمر بن الخطاب فى الدوحةالولاياتالمتحدة لضرب سوريا وقال لإسرائيل: لا تخافى.. إنكم تظنون أننا سننتهى من الجهاد فى سوريا ونستدير لنكمل الجهاد ضد إسرائيل. من قال لكم هذا؟ لن نفعل ذلك! ثم أكمل القرضاوى رسالته بالإساءة للجيش المصرى والدعوة لهزيمته، فطلب من الجنود المصريين ألا يتبعوا قيادات الجيش الظالمين، ودعا المسلمين إلى الجهاد فى أرض مصر ضد جيش مصر، وناشد المجتمع الدولى الوقوف ضد الجيش المصرى، وطالب بالنزول إلى الشارع فى ذكرى حرب أكتوبر لإسقاط السلطة والجيش. وكان ذلك كله تالياً لتصريحه الشهير الذى أعطى فيه الجيش الإسرائيلى مكانة أخلاقية أعلى من الجيش المصرى.. «إن الجيش الإسرائيلى أفضل من الجيش المصرى فى الإنسانية. الجيش الإسرائيلى لم يفعل بالفلسطينيين ما فعله الجيش المصرى بالمصريين»! يقول القرضاوى السابق فى كتابه «تاريخنا المفترى عليه»: «نهى الرسول صلى الله عليه وسلم نهياً شديداً عن الضرر فى الحرب، وعن التمثيل بجثث الأعداء، ولو كان أعداؤهم يفعلون ذلك بهم، لأن المسلمين تحكمهم مُثُلُهُم وشريعتهم بخلاف غيرهم». ولكن القرضاوى الحالى رفض إدانة المجرمين الذين مثّلوا بجثث المسلمين فى مذابح الإرهاب فى مصر. وبَدَا الشيخ وكأنه كان ينبّه إلى حرمة التمثيل بجثث الأعداء، أما التمثيل بجثث الأبرياء من المسلمين فلا يلفت الانتباه! يقول القرضاوى السابق: «رفض الخليفة عثمان بن عفان إراقة الدماء، ولو كان ذلك فى نصرته والدفاع عنه، واعتصم الخليفة بالصبر، وأبَى أن تُسَلّ السيوف تأييداً له، وكرِه أن يلقى الله بدم أحدٍ فى عنقه». ونقل القرضاوى قول معبد الخزاعى للإمام على بن أبى طالب: أى منزلة وسعتك إذْ قٌتِلَ عثمان ولم تنصره؟ قال: إن عثمان كان إماماً وإنه نهى عن القتال، وقال من سلّ سيفه فليس منى. ولكن القرضاوى الحالى أصبح داعية القتل ومفتى الدماء.. راح الشيخ يدعم خطاب الرعب والفزع، والتهديد بقتل مليون أو ملايين فى سبيل السلطة. إن القرضاوى الذى أفتى بقتل الحاكم فى ثورات الربيع العربى عاد وأفتى بقتل من يخرج على الحاكم فى عهد الإخوان! إن الشيخ الذى حدّثنا عن دعوة الخليفة الثالث بعدم إراقة قطرة دم واحدة رداً على دماء عثمان بن عفان راح يدعو لبحور من الدماء رداً على إسقاط محمد مرسى! يقول القرضاوى السابق فى الكتاب نفسه «تاريخنا المفترى عليه»: «الرحمة عنوان الرسالة المحمدية على خلاف اليهود الذين اشتهروا بالغلظة والقسوة حتى سمّتهم التوراة الشعب غليظ الرقبة وقال عنهم القرآن الكريم (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِىَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً).. ولقد انتشر الإسلام بفضائله وقوته الذاتية وليس بخيلٍ أو ركاب». ولكن القرضاوى الحالى أصبح الغطاء لقتل رجال الجيش والشرطة وأبناء الشعب.. أصبح الغطاء للإرهاب فى سيناء وللفزع فى عموم البلاد. نسى الشيخ ما قاله عن انتشار الإسلام بفضائله وقوته الذاتية وأصبح الغطاء الفقهى لدعاة ال«آر بى جى» والصواريخ المحمولة والسيارات المفخخة. ثمّة مثال آخر.. إن الشيخ القرضاوى الذى أفتى بكُفر الشيعة العلويين وقال إنهم أكفَر من اليهود والنصارى هو نفسه الذى يحفل موقع جوجل بصورٍ عديدة له وهو يصافح بشار الأسد مبتسماً ومبتهجاً ويجلس معه سعيداً وفخوراً رغم أن بشار الأسد لم يُغيّر مذهبه، وكان حين لقائه بالشيخ شيعياً علوياً ولا يزال. ولو أن الشيخ لم يلتق بشار وكان موقفه السابق والفتوى بكُفر الشيعة العلويين أو أنه اكتفى بالموقف السياسى ضد بشار دون تغيير فتواه بشأن الفقه والعقيدة لما وقع فى التناقض.. لكن تغيُّر رأى الشيخ فى الدين بتغيُّر رأيه فى السياسة كان صادماً. ثمة عشرات وعشرات من التناقضات المشينة. وليس الغرض من هذه السطور الإساءة أو الانتقام، بل دعوة الداعية للإفاقة والرشد، ودعوته إلى التواضع بعد أن امتلأت خطبه بالكثير من الأنا.. وكانت خطبته الشهيرة على منبر الأزهر مجرد استعراض للسيرة الذاتية لا يليق بالشيخ ولا بالمسجد. لقد اغترّ الشيخ فى ميدان التحرير يوم نسب إليه ثورةً لم يُطلِقها، ثم اغترّ فى الجامع الأزهر يوم ظهر منتشياً ومنتصراً لا عالماً ومفكراً.. ثم اغترّ بسلطة السياسة والإعلام التى أفقدته تمييزه المعتاد بين الحق والباطل. يرى كثيرون أن الرجل الذى تمتع بحسن المقدمة يمضى إلى سوء الخاتمة. ولأننى واحد من محبيه السابقين، فإننى أدعوه لأن يتواضع وأن يعتذر وأن يتوب.. وأسأل الله لنا وله حسن الخاتمة.