دخلت علىّ صديقتى النمساوية وهى تهز رأسها بطريقة الغضب الفييناوى المؤدب المتعجب. صديقتى تعرف قليلاً من العربية قلت لها: «ماذا حدث؟» قالت: «شىء عجيب! سألنى شخص عربى داخل الأتوبيس عن محطة مسرح الشعب، فقلت له إنها بعد ثلاث محطات. قال شكراً بالعربية ثم ابتعد عنى خطوتين ليسأل سيدة أخرى عن المحطة نفسها؛ فكررت عليه السيدة كلامى نفسه، ثم سمعته يستفسر بعد دقيقة من شخص ثالث عن المحطة نفسها. لم يكن معتوهاً بل بدا جاداً فى سؤاله، أليس هذا غريباً؟!». ضحكت وقلت: «لا، ليس غريباً أبداً، ففى بلادنا العربية حين يسأل شخص ما عن أى عنوان، يشعر المسئول أنه يجب أن يكون كريماً فى الرد وعالماً بالمكان بل بكل أمكنة البلاد، ولو كان رجلاً لأحس بانتقاص من رجولته لجهله المكان، فيرد بإجابة «كليشنكان»، وربما يرسلك للمريخ، لكنه يشعر أنه من العار أن يتفوه بكلمة: «لا أعرف» عن أى عنوان. * فى أول أيامى فى فيينا استوقفت شخصاً فى الطريق وسألته عن عنوان ما، فرفع كتفيه لأعلى بسرعة ولوى شفتيه لأسفل بالطريقة الفييناوية الشهيرة وقال: «لا أعرف!» ومضى. كنت وقتذاك وافداً جديداً على المدينة ورأيت فى تصرفه قلة ذوق ورداً فى منتهى البخل والعنجهية، كنت آتياً من بلاد كرم الردود بلا حساب باعتبار أن أى رد على استفسار الغريب حسنة! فى العام نفسه كنت أبحث عن عنوان مدرسة لغات، وحرت لساعة فى المداخل والحارات والأرقام. لم أجد أحداً أمامى إلا ضابط بوليس. لم أفكر مرتين. استوقفته باعتذار مهذب وسألته عن العنوان. كأنه استشعر خطأ ما، فاتصل بالمركز الرئيسى يستفسر عن العنوان. بعد لحظات جاء الرد الذى سمعته معه؛ بأن الرقم خطأ ليس 51 وإنما 15، فلا يوجد فى الشارع القصير رقم 51، وأن اسم المدرسة صحيح ونحن بالقرب منها بالفعل. مشى معى حتى العنوان الصحيح ثم استأذن. كان صديقى الذى كتب لى العنوان -وهو من بلادنا- قد بدل محل الرقمين ببساطة، فعشت لحظات عبثية أدور حول نفسى. * فى زيارتى الأخيرة لمصر كنت أبحث عن مدخل الأوبرا وقد نزلت من المترو فى المكان الخطأ. رأيت فتاتين تسيران معاً فى موازاتى، فسألت بأدب: «يا آنسة لو سمحتِ..!» لم تردا أو تتوقفا. اعتقدت أنهما لم تنتبها، فكررت، وتكرر التجاهل، فقلت للمرة الثالثة وأنا مستغرب: «باسأل بس عن مدخل الأوبرا لو سمحتو!» فوقفتا وردتا بأدب. لما سألت أصدقائى فيما بعد عن سبب هذا التجاهل، قالوا لى إن تصرفهما كان طبيعياً، فالبنات والنساء يتعرضن اليوم لتحرش لفظى وبدنى غير مسبوق، مما يجعلهن يتوجسن من أى كلمة أو حركة من ذكر سائر! حزنت لتغير القاهرة لهذه الدرجة من التحاشى والتحرش وسوء الطريق! * تذكرت هذه الحكايات صباح اليوم وأنا أسمع سائق شاحنة فى سيارته يسأل سيدة أنيقة سائرة على الرصيف عن أحد الشوارع. توقفت السيدة فوراً لتصف له الطريق بالتفصيل وتوجهه للمدخل الصحيح للشارع ذى الاتجاه الواحد.. شكرها وانطلق. احترام وقت الناس هو السبب الجوهرى فى مثل هذه الردود الحاسمة، فمن يجهل شيئاً يقول إنه لا يدرى، فلا يضيع وقته ووقتك. يتركك لمن لديه العلم. الكثير من الناس يسألون هنا فى الطريق عن عناوين، والكل يتوقف ليرد إما بالاعتذار السريع لعدم المعرفة أو بالشرح المستفيض إن كان يعرف؛ لأنهم يعملون ببساطة بالمثل الذى تناسيناه: «من قال لا أعلم فيما لا يعلم فقد أفتى!».