رغم فترة حكمه التى طالت حتى تجاوزت الأعوام العشرة، لم يواجه عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، أجنحة معارضة ذات بأس، سواء على المستوى الفردى أو المستوى الجمعى، كما كان الحال فى عصر أبى بكر الصديق، رضى الله عنه. فقد اشتهر أمير المؤمنين بغلظته وقوة شكيمته، مما ردع الآخرين عن التجرؤ عليه، إلا فى المواقف التى اجتهد البعض فى تصحيح تأويلاته للدين، كما حدث مع المرأة التى ردت عمر فى شأن المهور، فقال قولته الشهيرة: «أصابت المرأة وأخطأ عمر» كما ورد فى «تفسير ابن كثير». وكذلك فى تلك الخطبة التى يقال إنه خطبها بعد توليه الخلافة وقال فيها: «إذا رأيتم فىّ عوجاجاً فقومونى، فقام رجل: والله لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناك بسيوفنا، فقال عمر: الحمد لله الذى جعل فى أمة محمد صلى الله عليه وسلم من يقوّم عمر بسيفه». وقد جاهر سعد بن عبادة بمعارضة عمر بن الخطاب -رضى الله عنه- وأعرب له عن كراهيته لجواره فى المدينة، فما كان من الأخير إلا أن طلب منه الرحيل عنها. وقد تركها سعد بن عبادة بالفعل مغادراً إلى الشام، حيث توفى هناك بمنطقة «حوران». ومؤكد أن ما اشتهر به عمر بن الخطاب من عدل قلل من حجم المعارضة السياسية له إلى حد كبير، وكذلك سعيه المستمر إلى التعرف على أحوال رعيته ومبادرته إلى حل ما تواجهه من مشكلات، كل هذه الأمور أدت إلى عدم وجود معارضة حقيقية له. الأمر الوحيد الذى يفسر اغتيال الخليفة الثانى يرتبط بموقفه من «العلوج» الذين كانوا يعيشون على تخوم المدينة. والعلوج هم «كفار الأعاجم»، وكان أكثرهم من الفرس الذين تم أسرهم بعد موقعة القادسية التى زلزل فيها سعد بن أبى وقاص ملك كسرى، أو تم استجلابهم للعمل لدى كبار أهل المدينة. و«العلج» فى اللغة العربية معناها «الحمار الوحشى» وتقال فى وصف الشخص شديد الجفاء والغلظة. وتعكس التسمية نظرة العرب «الاستعلائية» إلى هؤلاء الأعاجم الكفار. وقد توازى مع هذه الدونية طبيعة الأعمال التى امتهنها هؤلاء «العلوج»، إذ كانوا يعملون فى الصناعات اليدوية كالحدادة والنجارة وغيرها، وهى تلك الصناعات التى تعلموها وأتقنوها فى البلاد التى وفدوا أو استوفدوا منها. وتحتشد كتب التاريخ الإسلامى بالكثير من الأحداث التى ترسم صورة شائهة لهؤلاء «الصناع»، خصوصاً فيما يتعلق باستخدامهم فى عمليات الاغتيال أو العدوان على الآخرين. كان «أبو لؤلؤة» المجوسى، وهو مولى «المغيرة بن شعبة»، واحداً من هؤلاء «العلوج»، وكان يجيد النجارة والحدادة وصناعة «الرحى»، وقد فرض عليه المغيرة أن يؤدى إليه دينارين فى اليوم، ولم يكن أبو لؤلؤة استثناء فى ذلك، بل كان شأنه شأن أبناء جلدته، ممن وجب عليهم أداء الخراج للدولة أو للسادة من العرب المسلمين. ويروى «ابن الأثير» فى كتابه «الكامل فى التاريخ» هذا الحوار بين عمر بن الخطاب وأبو لؤلؤة قبل اغتياله بساعات: «قال المسور بن مخرمة: خرج عمر بن الخطاب يطوف يوماً فى السوق، فلقيه أبو لؤلؤة، غلام المغيرة بن شعبة، وكان نصرانياً، فقال: يا أمير المؤمنين، أعدنى على المغيرة بن شعبة فإن علىّ خراجاً كثيراً. قال: وكم خراجك؟ قال: درهمان كل يوم. قال: وأيش صناعتك؟ قال: نجار، نقاش، حداد. قال: فما أرى خراجك كثيراً على ما تصنع من الأعمال، وقد بلغنى أنك تقول: لو أردت أن أصنع رحى تطحن بالريح لفعلت! قال: نعم. قال: فاعمل لى رحى. قال: لئن سلمت لأعملن لك رحى يتحدث بها من بالمشرق والمغرب! ثم انصرف عنه. فقال عمر: لقد أوعدنى العبد الآن». تعكس هذه القصة العلاقة بين «العلوج» من العمال والصناع الذين كانوا ينتشرون بالمدينة وعلى حدودها وبين الدولة ممثلة فى الخليفة عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، فقد جاء أبو لؤلؤة شاكياً من إرهاق ما يدفعه من خراج للمغيرة بن شعبة، فما كان من عمر إلا أن استفسر منه عن صناعته، ولما وجد أنه يجيد أكثر من عمل، قال له إن الخراج الذى يدفعه مناسب، ثم استطرد عمر وسأله عن الرحى التى تطحن بالريح والتى يجيد صناعتها، فما كان من الأخير إلا أن توعده بأن يصنع له رحى يتحدث بها من بالمشرق والمغرب، فأدرك عمر مغزى العبارة، وفهم أن «العلج» يتوعده وأنه قاتله. وقد كان!