تجده جالساً على ذلك الرصيف المجاور لمجمع التحرير، شخص أبيض الشعر، يترقب -فى صمت- المعتصمين داخل خيمهم وهم يجلسون أمامه تحت الشمس يثابرون حتى يسمعوا أذان المغرب، شاركهم فرحتهم وحزنهم فقرر أن يشاركهم صيامهم أيضاً غير عابئ بالصليب المُعلق فى عنقه ويُزين صدره، يقبع فى ميدان التحرير منذ ما يقرب من عامين، وتحديداً منذ 20 نوفمبر 2011، يدعوه المعتصمون فى الميدان «أبومينا»، أما اسمه الحقيقى فهو «مجدى إسكندر سعد»: «أنا مسيحى وصعيدى حُر».. هكذا يصف نفسه. لا يبدو عليه الهرم لأن ميدان التحرير «بيرجعك شباب من تانى»، ويقول: «النهارده دنيا وبكره آخرة والكفن مالوش جيوب.. دخلتها عريان وهطلع منها عريان.. هزعل على إيه». شهر رمضان بالنسبة إلى هذا الرجل القبطى من أحلى الشهور: «الميدان ما بيفرقش بين مسلم ومسيحى.. كلنا مصريين»، ترتسم على ملامحه التجاعيد الصعيدية وكل من يمر إلى جواره يظل يناكفه ويُشاكسه حُباً فيه.. ف «خادم القوم سيدهم» كما يقولون فى الأمثال، وعلى الرغم من أنه مُدخن شره فإنه يمتنع عنها خلال فترة النهار وحتى أذان المغرب، وإذا قهره الجوع يشترى «سندويتش» يأكله بعيداً حتى لا يجرح مشاعر الصائمين. ينطلق مدفع الإفطار فيناديه المعتصمون ليشاركهم، فهو ضيف معتاد وأساسى على مائدة ميدان التحرير: «أنا ثورى مستقل.. بساعد الناس من تلقاء نفسى.. شىء طبيعى من جوايا.. والحمد لله كلهم بيحبونى». «آخر بنى آدم همشى من الميدان».. يقولها مجدى إسكندر بتعصب، فهو ليس موجوداً فى الميدان من أجل إقامة حفلات سمر، على حد قوله، بل لأن ابنه «مينا» الذى استشهد ضمن الشباب الذين تم قتلهم بجوار قسم الشرابية خلال أحداث الانفلات الأمنى فى أعقاب الثورة: «يعنى إزاى ابنك يتقتل قدام عينيك ويقولك ده قتل خطأ.. وفجأة كل الظباط يطلعوا براءة فى القضية». يُشمر بنطاله على استحياء فتظهر ندبة كبيرة: «الإصابة دى كانت فى موقعة الجمل.. أنا مش هسيب الميدان لحد لما حقى يرجع لى».. ترفع المساجد أذان المغرب فينضم «أبومينا» بصليبه إلى دائرة المصريين التى لا تعرف فيهم قبطياً من مسلم. يرفع الرجل المُسن كفيه متضرعاً راجياً إعادة حقه وحق ابنه الشهيد.. لحظات ويغمسون أصابعهم فى طبق واحد يجمع فرقتهم ويطهر نفوسهم.