فجأة، وكما توقعنا، تصاعدت دعوات التصالح مع الإخوان، فعلها «البرادعى» وتركنا وتركها إرثاً مؤذياً، وإذا بمثلها يصعد ربما بحسن نية وربما فى محاولة لاكتساب الخارج أو ارتداء مسوح الرهبان كسباً لتعاطف.. أو أى شىء. وما يهمنا أن نؤكد أنه لا أحد عاقل ضد التصالح، لكن بعد التحاسب واستبعاد كل من مارس عنفاً أو دعا له أو دبر أو حرّض أو ساعد أو ساند. وبعدها يكون التصالح على أساس واضح محدد قوامه إدانة الجرائم والمجرمين وإدانة الفكر الداعى للعنف والالتزام بإرادة 30 يونيو ورفض استخدام الدين سلاحاً أو غطاءً فى العمل السياسى. ساعتها تصالحوا كما شئتم. فإن لم يعجبكم رأينا فإليكم ما كان بالضبط بين «على» والخوارج وما كان منهم إزاء تصالحه. إنه بالضبط ما يجرى اليوم وما يحاول البعض توريطنا فيه.. كانت معركة صفين توشك على هزيمة معاوية فأشار ابن العاص برفع الجنود للمصاحف على الرماح طالبين تحكيم كتاب الله فإن قبلوا رفعت عنا الهزيمة وإن أبى بعضهم وجدنا فى اختلافهم راحة (وهذا ما نحن الآن بصدده) اكتشف «على» الخدعة فصاح: «امضوا إلى حقكم فإنهم ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، أنا أعرف بهم، لقد صحبتهم أطفالاً ورجالاً فكانوا شر أطفال وشر رجال. والله ما رفعوها إلا مكيدة» (تماماً كما نقول هم إرهابيون من بدايتهم وفكرهم بذاته يقودهم إلى الإرهاب)، لكن سعد بن فدك التميمى صاح فى وجه «على»: «أجب إلى كتاب الله وإلا ألقينا برمتك إليهم» (ابن الأثير - الكامل فى التاريخ - الجزء 3 - ص 171). وتمضى القصة التى يعرفها الجميع. فإذا بمن صمموا على التصالح عبر التحكيم يتهمونه بالكفر لأنه قبل التحكيم. فإن كان ابن العاص حكماًَ عدلاً فلماذا قاتلناه؟ وإن لم يكن عدلاً فلماذا يسوغ تحكيمه؟ لكن «على» مضى فى طريق التصالح مع الخوارج وأمر بالصلاة على موتاهم، بل ذهب ليحاورهم فصاح حرقوص البجلى فى جلسة صلح: «يا على، إننا لا نريد بقتلك إلا وجه الله» فرد «على» بالقرآن: «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا» (وهكذا نجد بعض فتية الجماعة يقتلون ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً، بينما هم وجماعتهم الأخسرون أعمالاً)، وظل «على» يلح فى المصالحة فذهب إلى معسكرهم فى حروراء، ويروى عبدالله بن عباس، الذى ذهب معه: «دخلت على قوم لم أجد أشد منهم اجتهاداً فى العبادة». ويقول جندب المرادى، وكان معهما: «كان لهم دوى كدوى النحل فى قراءة القرآن» (ابن الجوزى - تلبيس إبليس - ص 91)، تظاهروا بالإيمان، بينما قلوبهم تقطر حقداً وأيديهم تسفك الدماء (تماماً كما حدث فى «رابعة» و«النهضة») ويردد «على» حديثاً للرسول: «تحقر صلاة أحدكم إلى جانب صلاتهم وصوم أحدكم إلى جانب صومهم، لكن إيمانهم لا يجاوز حلوقهم».. ويصمم مع ذلك على التصالح. بينما هم يقررون قتل الأربعة: معاوية وابن العاص وعلى وأبوموسى الأشعرى، الثلاثة كانوا يحتاطون ويعرفون وحشية الخوارج، أما «على» فكان لم يزل داعياً للتصالح ولم يحتَط لنفسه وأفلت الثلاثة وقتل الأكثر تقوى والداعى للتصالح. وصاح أحد الخوارج مادحاً عبدالرحمن بن ملجم، قاتل «على»: «لله در المرادى الذى سفكت/ كفاه شر خلق الله إنساناً/ يا ضربة من تقى ما أراد بها/ إلا ليبلغ من ذى العرش رضواناً». وراح «على» ثمناً لتصالحه غير المتوازن مع من يرون أن قتله هو مفتاح لدخول الجنة. (وهكذا يطلب منا البعض أن نفعل: ننسى الجريمة والقاتل ونهاجم من يرفضون صلحاً معه إلا بعد التوبة وإدانة القتل). باختصار: نعم لتصالح يحقق مصلحة الوطن، ولا لتصالح يقودنا إلى طريق جهنم من جديد، وتصالح يحمى الوطن وتقدمه ولا يحمى القتلة والإرهابيين.