بغض النظر عن نتائج انتخابات مجلسى الشعب والشورى وحصول كل من حزب الحرية والعدالة الإخوانى وحزب النور السلفى على الأكثرية، فلا بد أن نقرر -بعدما قبلنا بنتيجة الانتخابات إعمالاً لقيم الديمقراطية- أنه لا ديمقراطية بغير احترام دولة القانون. وهناك إجماع فى الرأى بين فقهاء الدستور على أن هناك تلازماً عضوياً بين الديمقراطية والتطبيق المنهجى الفعال لمبدأ سيادة القانون. ومقتضى هذا المبدأ الحجية المطلقة للأحكام النهائية الباتة، وضرورة أن تلتزم كافة مؤسسات الدولة ابتداء من رئيس الجمهورية والمجالس النيابية وكافة الوزارات والمصالح الحكومية بل والأفراد باحترام الأحكام القانونية، باعتبارها هى عنوان الحقيقة. غير أن هذه المبادئ العالمية المتفق عليها فى مجال الدولة الحديثة حيث يسرى على الجميع مبدأ احترام الأحكام القضائية تم اغتيالها -إن صح التعبير- عن طريق السيد رئيس الجمهورية، حين أصدر قراراً جمهورياً بسحب القرار الذى سبق أن أصدره المجلس الأعلى للقوات المسلحة بحل مجلس الشعب، تنفيذاً لحكم المحكمة الدستورية العليا الذى حكم ببطلانه. ويبدو أن السيد الرئيس ظن وهماً -وفقاً لتوجيهات جماعة الإخوان المسلمين- أنه يمكن له بإرادته المنفردة أن يلتف حول حكم المحكمة الدستورية العليا ويحيى مجلس الشعب الباطل، إلا أن هذا الوهم بددته المحكمة الدستورية العليا حين أصدرت حكمها مرة ثانية، الذى يقضى بأنه لا يجوز إحياء المجلس الباطل. ويحمد للسيد رئيس الجهورية أنه استجاب هذه المرّة لمقتضى الحكم وصرح بأنه يحترم أحكام المحاكم، ووعد بعقد لقاء مع المجلس الأعلى للقضاء ورؤساء الهيئات القضائية للتشاور فى طرق اجتياز هذه المرحلة الدقيقة التى يمر بها النظام السياسى المصرى. غير أن جماعة الإخوان المسلمين التى رفعت شعار «الشرعية الديمقراطية» ورفضت شعار «شرعية الميدان» على أساس أنه تم تجاوزها بعد الانتخابات التشريعية وانتخابات الرئاسة، سرعان ما عادت بجماهيرها الحاشدة مرة أخرى إلى ميدان التحرير لرفع مطالبات متعددة أخطرها عدم الاعتداد بأحكام المحكمة الدستورية العليا بحل مجلس الشعب، والاعتراض على الإعلان الدستورى المكمل الذى يحدد صلاحيات الرئيس وغيرها من المطالبات. ومعنى ذلك أن جماعة الإخوان المسلمين ومعها جماعات أخرى مثل أنصار «حازم أبوإسماعيل» وبعض التكتلات الثورية الشاردة مثل جماعة 6 أبريل و«الاشتراكيون الثوريون»، يريدون أن يحكموا الشارع فى تحديد مسار الفترة المتبقية على المرحلة الانتقالية الجديدة، التى تتضمن وضع الدستور وإجراء انتخابات نيابية جديدة. ليس ذلك فحسب وإنما حشدت جماعة الإخوان المسلمين المظاهرات لكى تمارس هتافاتها الغوغائية أمام مجلس الدولة للتأثير على الحكم الذى سيصدر إما ببطلان الجمعية التأسيسية وإما بإبقائها. والواقع أن جماعة الإخوان المسلمين بذلك تمارس خطاباً مزدوجاً لا يكشف إلا عن انتهازية سياسية صارخة. فحين يكون الموقف فى صفها تهتف بحياة «شرعية البرلمان»، وحين تدخل فى صراع مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وأخطر من ذلك مع المؤسسة القضائية بكافة محاكمها، فهى تؤيد «شرعية الميدان»، ليس ذلك فحسب ولكن تحشد جماهيرها للاعتراض على الأحكام القضائية أو للتأثير فى اتجاهاتها. وفى يقيننا أن أهم إنجازات ثورة 25 يناير هو هذا المسار الديمقراطى الذى اختطته مصر لنفسها منذ تنحى الرئيس السابق وتولى المجلس الأعلى للقوات المسلحة السلطة بشكل مؤقت فى البلاد قبل تسليمها إلى السلطة المدنية المنتخبة، التى تمثلت فى السيد رئيس الجمهورية الدكتور «محمد مرسى». وهذا المسار يعنى -مع الاعتراف بتعثره وازدحامه بالمشكلات العديدة والتحديات المعقدة- أنه أسلم الطرق لتحول الثورة إلى دولة ديمقراطية مدنية، تقوم على أساس سيادة القانون واحترام أحكام القضاء والتطبيق الدقيق لمبدأ المواطنة، حيث لا يجوز التمييز لأى سبب بين المواطنين على أساس أن المصريين جميعاً سواء أمام القانون. ومن هنا فإن المظاهرات فى الميادين المختلفة سواء فى ميدان التحرير أو غيره من الميادين التى تقوم بها بعض الجماعات السياسية لخدمة أغراضها السياسية الضيقة، ينبغى أن تتوقف نهائياً حتى يتاح للسيد رئيس الجمهورية -الذى لم نشارك فى انتخابه لاختلافنا مع التوجهات الفكرية لجماعة الإخوان المسلمين- الوقت الكافى والهدوء المطلوب لتشكيل فريقه الرئاسى الذى يضم -كما وعد- كافة الأطياف السياسية، ويختار رئيس الوزراء الذى سيشكل الوزارة، التى لن تكون وزارة إخوانية خالصة. أما محاصرة القصر الرئاسى بعشرات المظاهرات الفئوية التى ضمت كافة فئات المجتمع، وحشد جماعة الإخوان المسلمين لأنصارها فى الميادين سعياً وراء السيطرة الكاملة على مجمل الفضاء السياسى المصرى، فمعناه أنه بدلاً من أن نقيم دولة القانون فإننا نسعى إلى ترسيخ حكم الشارع، وسيكون ذلك لو حدث أكبر نكسة لثورة 25 يناير، التى لم تقم لتقنين حق الفوضى، ولكنها قامت لتأسيس نظام جديد يحقق الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية ويحافظ على الكرامة الإنسانية.