جلس بكامل زيه العسكرى على المقعد الخلفى للسيارة المكشوفة التى تسير ببطء بين الحشود، لوّح بإحدى يديه بعد ساعات من نجاحه ضمن تنظيم الضباط الأحرار فى إنزال الملك فاروق الأول عن عرش مصر، أمام عينيه طافت ذكريات ماضيه فى شوارع الإسكندرية التى تربى بها منذ ميلاده عام 1918، والده ذو الأصول الأسيوطية، جماعة الإخوان المسلمين التى استمالته قبل علو نجمه، والفالوجة التى حوصر فيها مع جنوده من قبل القوات الإسرائيلية فى حرب فلسطين التى دفعته لتشكيل تنظيم الضباط الأحرار وكذلك للتخطيط للثورة فى يوليو 1952. الحديث عن جمال عبدالناصر لن ينفصل على فترته الرئاسية، فترة اختلطت فيها التجاوزات بالإنجازات، اختلط فيها الألف مصنع التى دشنها، بالمعتقلات التى عُذِّب فيها المعارضون، مصانع الصلب التى ارتفعت بمصر لأول مرة مع الصحف التى كانت تسبّح بحمد النظام، والنظام الاشتراكى الذى ذوّب طبقات المجتمع مع إلغاء التعددية الحزبية، وتصنيع أسلحة الجيش مع نسبة ال99.9% فى استفتاءات الرئاسة، ورفض التبعية خارجياً وتأسيس منظمة دول عدم الانحياز 1955 أمام مذبحة القضاء التى وقعت عام 69. شهد عصر «ناصر» جملة من الإنجازات، منها وحدة مصر مع سوريا 1958 1961، وإبرام اتفاقية الجلاء 1954 التى خرج بموجبها آخر جندى بريطانى من مصر بعد احتلال دام سبعة عقود، واستكمل عبدالناصر حركة التأميم التى بدأت مع اندلاع الثورة، فأمم قناة السويس فى يوليو 1956 ليضمن من ريع القناة تمويلاً لبناء السد العالى الذى دشنه فى أسوان وافتتحه فى عام وفاته 1970، كما وضع قوانين يوليو الاشتراكية 1961 متمماً بها قانون الإصلاح الزراعى الذى حدد الملكية الزراعية لكبار الملاك، عزز عبدالناصر قدرات القوات المسلحة التى خارت فى منتصف الستينات بعد إنهاك لحق بها من جملة الحروب والمعارك التى شاركت فيها فهُزم الجيش المصرى فى صبيحة 5 يونيو 1967 أمام القوات الإسرائيلية. حاول منتمون لجماعة الإخوان اغتيال عبدالناصر فى «حادث المنشية» الشهير بعدما أمر مجلس الثورة بحل جماعة الإخوان، فأقيمت محاكمات لقيادات الجماعة أُعدم فيها 7 من قيادات الجماعة، ليستمر الصراع بين عبدالناصر والإخوان فى فترة الخمسينات والستينات من القرن الماضى. هزيمة يونيو 1967، واحتلال سيناء أحرج «ناصر» أمام الرأى العام فى مصر، خطب معلناً تنحيه، وكلّف زكريا محيى الدين برئاسة الجمهورية مؤقتاً، رفض الناس.. تمسكوا بعبدالناصر رغم الهزيمة، فتراجع عن موقفه وأعاد تجهيز الجبهتين الداخلية والخارجية وخاض معارك الاستنزاف ليفتح بها ممراً أمام الجيش المصرى لعبور القناة فى عهد السادات أكتوبر 1973. فى مسيرة جنائزية هى الأكبر فى التاريخ، خرج ملايين المصريين لتشييع زعيمهم الراحل فى 1970، حشود أثبتت قرب عبدالناصر من الناس وقربهم منه «يتريقوا على طوابيره/ علشان فراخ الجمعية/ شوفوا غيره دلوقتى وخيره/ حتى الرغيف بقى أمنية.. يرحم جمال عبدالناصر.. الأرض رجعت للإقطاع/ وصاحبك الفلاح أهو جاع/ ضاعت العقود واللى كتبها.. وخط إيد عبدالناصر».