يلاحظ الكثيرون أن فتاوى الدكتور يوسف القرضاوى، رئيس الاتحاد العالمى لعلماء المسلمين، لا تأتى مخالفة لتوجهات الدولة القطرية ومواقفها السياسية، وأنها تستبق الأحداث أحياناً لتعطى الغطاء الشرعى، لمواقف الدوحة التى يتماهى معها ويسير فى ركابها تنظيم الإخوان، ويُعد «القرضاوى» أحد أهم أركانها على الإطلاق. ولم يترك «القرضاوى» فتوى من فتاواه السياسية المغرقة فى الدماء، إلا وذيلها بتحية إلى دولة قطر، لمساندتها للثورات العربية، التى توقفت فى رؤية الشيخ عند طموحات التنظيم الدولى للإخوان فى الحكم، ولم تتعدَّها إلى ثورات الشعوب الحقيقية، كان آخرها فتواه بحل سفك دم بشار الأسد، دون تعرضه لمحاكمة مدنية عادلة حين قال: «إن قطر دولة شجاعة، ساندت كل الثورات العربية بكل ما تستطيع من أول يوم ولم تبالِ بأحد، وقد بدأت أخيرا بعض الدول تحذو حذوها». والمفارقة أن «الشيخ» لم يتعرض بفتاواه إلى القاعدة العسكرية الأمريكية فى قطر أو انتقادها، ولو بشكل غير مباشر لوجود مكتب لإسرائيل فى الدوحة، والعلاقات السياسية بين حكامها وإسرائيل، ويتجاهل أى تنديدات بذلك، ولم يصدر فتوى تصطدم مع سياسة الدولة التى كانت لها الفضل عليه. وقبيل ثورة 30 يونيو بدأت إرهاصات زوال حكم دولة الإخوان، وشعر التنظيم الدولى للجماعة بأن هناك خطرا يحدق بنظام محمد مرسى، ومن ثم تفكيك الإخوان أيديولوجيا وتنظيميا، ومبكرا اتجهت بوصلة «القرضاوى» لمصر ليحاول إنقاذ «التنظيم» بفتوى جديدة ناقضت تماما ما أفتى به الرجل من قبل فى عصر نظام الرئيس الأسبق حسنى مبارك، أو حتى فتاواه المؤيدة للمعارضة السورية فى مواجهة نظام بشار الأسد. فظهر «الشيخ» ليندد بالتظاهرات التى تدعو إليها المعارضة المصرية ضد محمد مرسى، وطالب من سماهم «المخربين» بأن يخافوا الله ويتركوا البلد لأهله حتى يعيدوا بناءه من جديد، فى إشارة واضحة إلى أن المعارضين ليسوا أهل البلد، وأن عليهم أن يتركوه لأصحابه الذين هم تنظيمه «الإخوانى». وبعد أن أيّد «الشيخ» تظاهرات خرجت ضد نظام «مبارك» فى 25 يناير 2011؛ لأن جماعته كانت لديها القدرة على السيطرة على المشهد فى ظل عدم وجود تنظيمات سياسية قوية فى ذلك الوقت، وقف «القرضاوى» ضد خروج ما يقرب من 30 مليونا يطالبون بإسقاط حكم الإخوان، واستنكر فى خطبة الجمعة، من مسجد عمر بن الخطاب بالدوحة، من يطالب بعزل «مرسى» وإجراء انتخابات مبكرة، مؤكداً شرعية الرئيس مرسى وعدم أحقية هذا الطلب. وأكد أنه «لا يجوز لأحد أن يرفع صوته بالمناداة بإخراج مرسى من الحكم؛ لأنه منتخب شرعيا، وهو ولى أمر المسلمين الذى يجب أن يطاع بأمر الله، الذى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ)». واعتبر «القرضاوى» أن «مرسى» ولى أمر شرعى تجب طاعته ويحرم الخروج عليه، وشدد على الأمر بقوله: «حرام عليكم أن تدعوا الناس إلى الخروج إلى هذه الفتنة»، وطالب الداعين إلى الاحتجاجات باتباع المسار الانتخابى؛ فالانتخابات هى الحكَم، ودعا كل مصرى يريد الخير لبلده أن يترك هذا اليوم يمر فى سلام. ووجه نداء لما سماهم «عقلاء مصر»، قائلا: «أنا أوجه ندائى للمصريين العقلاء: صبرتم 60 عاما على حكم ظالم إلا فى بعض الفترات، كانت الأموال تُنهب والأنفس تُزهق ولم يكن أحد يستطيع التمتع بحريته ولا كرامته، فلماذا لم تستطيعوا الصبر عاما واحدا على الرئيس محمد مرسى؟ فهل كنتم خائبين عندما انتخبتموه؟ ولماذا لم تصبروا عليه حتى يكمل مدته التى حددها الدستور ب4 سنوات؟». ورد عبدالرحمن يوسف، الشاعر نجل «القرضاوى»، فى رسالة وجهها إلى والده، قال فيها: «أبى الكريم.. إن المقارنة بين مرسى ومبارك غير مقبولة، وهذه رؤية جيلنا التى ربما لا يراها من قبلنا. يا سيدى.. جيلنا لم يصبر على الاستبداد 60 أو 30 عاما كما تقول، بل هو جيلكم الذى فعل ذلك باسم الصبر، أما نحن فجيل تعلم ألا يسمح لبذرة الاستبداد بالاستقرار فى الأرض، وقرر أن يقتلعها من عامها الأول قبل أن تنمو؛ فهى شجرة خبيثة لا بد أن تُجتث من فوق الأرض». وتابع: ولو أن «مرسى» قد ارتكب 1% مما ارتكبه سابقوه، فما كان لنا أن نسكت عليه، وهذا حقنا، ولن نقع فى فخ المقارنة ب60 عاما مضت؛ لأننا إذا انجرفنا لهذا الفخ فلن نخرج من الماضى أبدا. وأكمل: «لقد تعلمت منكم أن المسلمين عند شروطهم، ألست القائل: (إن الإمام إذا التزم بالنزول على رأى الأغلبية وبويع على هذا الأساس، فإنه يلزمه شرعا ما التزم به، ولا يجوز له بعد أن يتولى السلطة أن يضرب بهذا العهد والالتزام عرض الحائط، ويقول إن رأيى فى الشورى أنها معلمة وليست ملزمة، فليكن رأيه ما يكون، لكنه إذا اختاره أهل الحل والعقد على شرط وبايعوه عليه فلا يسعه إلا أن ينفذه ولا يخرج عنه؛ فالمسلمون عند شروطهم، والوفاء بالعهد فريضة، وهو من أخلاق المؤمنين)». وفى موضع آخر من فتواه التى نشرها موقعه الشخصى يقول «القرضاوى»: إن المصريين عاشوا 30 سنة -إن لم نقُل 60 سنة- محرومين من انتخاب رئيس لهم، يسلمون له حكمهم باختيارهم، حتى هيّأ الله لهم، لأول مرة، رئيساً اختاروه بأنفسهم وبمحض إرادتهم، وهو الرئيس محمد مرسى، وقد أعطوه مواثيقهم وعهودهم على السمع والطاعة فى العسر واليسر، وفيما أحبوا وكرهوا، وسلمت له كل الفئات من مدنيين وعسكريين وحكام ومحكومين، ومنهم الفريق أول عبدالفتاح السيسى الذى كان وزير الدفاع والإنتاج الحربى فى وزارة هشام قنديل، وقد أقسم وبايع أمام أعيننا على السمع والطاعة للرئيس مرسى، واستمر فى ذلك السمع والطاعة، حتى رأيناه تغيّر فجأة، ونقل نفسه من مجرد وزير إلى صاحب سلطة عليا، علل بها أن يعزل رئيسه الشرعى، ونقض بيعته له، وانضم إلى طرف من المواطنين، ضد الطرف الآخر، بزعم أنه مع الطرف الأكثر عددا. واستطرد: «ومن هنا -والكلام ما زال لكم- نرى أن أى جماعة من الناس -وإن كانوا مختلفين فى إلزامية الشورى- يستطيعون أن يلزموا ولى الأمر بذلك إذا نصوا فى عقد اختياره أو بيعته على الالتزام بالشورى ونتائجها، والأخذ برأى الأغلبية مطلقة أو مقيدة، فهنا يرتفع الخلاف».. السياسة الشرعية فى ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها (ص 116، ط مكتبة وهبة). كان «القرضاوى» من أوائل الشيوخ الذين حوّلوا الثورة السورية من صراع سياسى إلى صراع طائفى، ألهب فيه مشاعر الطائفة السنية ضد الشيعة، لتخرج الثورة السورية من مسارها الصحيح لتتحول إلى حرب إبادة طائفية؛ ففى إحدى خطبه فى الدوحة صرخ: «عار عليكم يا أمة الإسلام ويا أتباع محمد، عليه الصلاة والسلام، أن تتركوا إخوانكم من أهل السنة فى سوريا تزهق أرواحهم وتهتك أعراضهم وتنتهك حرماتهم وتُضيَّع حقوقهم وأنتم صامتون ساكتون، فليس هذا شأن المؤمنين ولا شأن المسلمين؛ فالمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا». كما أباح «القرضاوى» فى إحدى فتاواه، على قناة الجزيرة القطرية، قتل الحكام الذين يستخدمون السلاح فى قتل شعوبهم، ومثل ذلك الرئيس السورى بشار الأسد، الذى يستخدم السلاح فى قمع شعبه ويذبحهم ويدمر البلاد، وكذلك رئيس وزراء العراق نورى المالكى أسوة بما يفعل من قتل للشعب العراقى. وأعرب الشيخ عن أن هذه الفتوى ترجع إلى استبداد الظلم وعدم ترجيح العقل وكذلك الإسراف فى استخدام السلاح ضد مواطنين عزل لا يملكون ما يدافعون به عن أنفسهم، الأمر الذى يدعو إلى قمع هؤلاء الحكام درءاً لمزيد من إراقة الدماء الزكية، وقال: «هؤلاء الحكام تدعمهم إيران بالمال والسلاح، وما ينتج عنه تدخل فى شئون البلاد الإسلامية». كان الشيخ القرضاوى قد أفتى بقتل الزعيم الليبى الراحل معمر القذافى إبان استخدام السلاح فى قمع المعارضة، وقال إن دم القذافى فى رقبته، وكان ذلك السبب فى معاداة القذافى للشيخ القرضاوى بل وللإخوان جميعاً. ولم يصمت اتحاد علماء بلاد الشام عن فتاوى «القرضاوى»، واعتبرها «تحريضا على سفك الدماء السورى وتكفير فئات من المسلمين»، وأكد فى بيان أن هذه الفتاوى لا تمت إلى مبادئ ديننا الحنيف بصلة، وتخالف المنهج القرآنى والنبوى الشريف وتخدم أعداء الأمة الذين باتوا يتربصون بنا الدوائر. وقال الاتحاد: إن ما صدر مؤخرا من فتاوى تحريضية جزء لا يتجزأ من الحرب المعلنة على الدين الإسلامى، ومن واجب علماء الاتحاد والأمة جمعاء بيان الموقف السديد من مواقف وفتاوى الفتن والدم انطلاقا من الإحساس بالمسئولية الشرعية والأخلاقية والوطنية الملقاة على عاتقهم وحرصا على وحدة الأمة وتماسكها. وأضاف أن فتوى «القرضاوى» حول تكفير فئات من المسلمين وغلوه المستهجن يفقدان الاتحاد العالمى لعلماء المسلمين مصداقيته لكونه يمثل علماء من الأمة، خصوصا أنه خرج بفتاواه عن القواعد الشرعية والنصوص المأثورة وأحاديث وسنة النبى صلى الله عليه وسلم. وأوضح الاتحاد أن ما صدر من فتاوى مؤخرا لم يفاجئ أحدا من علماء الاتحاد ولا غيرهم؛ كونه صدر على خلفيات حزبية مرتبطة بمخططات واضحة المعالم والأبعاد والأهداف التى لم تعد خافية. أخبار متعلقة: «القرضاوى».. الفتاوى «الملاكى».. ادفع تجد ما يسرك أزهريون: «القرضاوى» يحاول لعب دور «الخمينى» فى مصر سياسيون يهاجمون «القرضاوى».. ويطالبون بمنعه من دخول مصر