كعادة المليونيات الحاشدة، احتل مجموعة من الباعة الجائلين أرصفة المنطقة الراقية، إلا أن نوعية السلع اختلفت عن تجمعات التحرير، الكتب الدينية والتمر والذرة والمياه المعدنية، فيما يبحث المدخنون عن سجائرهم فلا يجدون لها سبيلاً، عربة فول يتحلق حولها عشرات القادمين من المحافظات البعيدة، ينالون إفطارهم قبل الشروع فى التظاهر، أطفال يربطون شارات خضراء تعلوها عبارة «الإخوان المسلمون» يتوسطها سيفان، أوتوبيسات قادمة من محافظات عدة تقف على بعد 500 متر من الميدان الأساسى، الصحف تحتل أيدى عدد غير قليل من المتظاهرين غير أن عنوانها واحد «الحرية والعدالة»، كان مصدرها ذلك الشاب الواقف فى الجهة المقابلة لمسجد رابعة ب«رزم» من الصحيفة تصل إلى نحو 20 ألف نسخة، الشمس فى كبد السماء، والجميع ينتظر بدء الخطبة. «الله أكبر»، صوت الأذان يصعد من مئذنة جامع رابعة العدوية، صبى صغير يرتدى الزى المميز لأحد محلات الكشرى الشهيرة بمنطقة مدينة نصر، وأمامه عدد مهول من «العلب» ممتلئة عن آخرها بالطعام الشعبى، راح ينتظر انقضاء صلاة الجمعة بمسجد رابعة العدوية، لخروج متظاهرى مليونية «الشرعية خط أحمر»، فيما يساعده زميل آخر يكبره سناً، منذ عدة أيام، وقبل الدعوة إلى المليونية الأولى، حضر إلى محل «عضمة» مجموعة من الشيوخ والتابعين لجماعة الإخوان للاتفاق مع صاحب المحل على إمداد المظاهرات الإخوانية المؤيدة للرئيس محمد مرسى بالطعام، حسب أحمد عطية، الذى يعمل بالمحل، الذى يؤكد انتماء مالك المحل للقوى السلفية، وهو ما ساعد فى إنجاز الاتفاق سريعاً «قالى انزل وبيع علبة الكشرى ب3 جنيه وده تمنها فى المحل»، السياسة كانت حاضرة بقوة خلال الخطبة فيما كانت الآيات تشير إلى «النصر على القوم الكافرين»، فيما اقتصر الدعاء على نصرة الدين والشريعة. الساعة تشير إلى الرابعة عصراً، مسجد «عبير الإسلام» القريب من مساكن شارع الطيران المقابلة لمسجد رابعة العدوية صار مأوى الباحثين عن دورات المياه التى كانت تشبه طوابير الخبز، فيما يتخذ آخرون من بيت الله مستقراً للنوم، فى الوقت الذى رصدت فيه «الوطن» بالكاميرا نحو 10 أشخاص يحمل كل منهم ماسورة خضراء اللون تستخدم فى السباكة، وتحمى رؤوسهم خوذة يستخدمها المهندسون فى عمليات البناء، ويرتدى بعضهم «صديرى» واقياً كلاعبى الكونغوفو، قبل أن يستقروا داخل المسجد. دقت الساعة لتعلن السادسة صباحاً، استخدمت جماعة الإخوان المسلمين ليلة الجمعة وتحديداً فى صلاة العشاء مكبرات الصوت الخاصة بالمساجد من أجل الحشد لمليونية «الشرعية خط أحمر» بمراكز محافظة بنى سويف، لم ينتمِ للجماعة قط، ولا حتى لأى حزب سياسى.. بجلباب صعيدى فضفاض؛ استقل «ناجح شريف» الميكروباص المتجه صوب القاهرة، وفى جُعبته مبلغ لا يتعدى ال100 جنيه، خرج لأنه مؤمن بأن شرعية الرئيس لا يمكن المساس بها «الصناديق هيه اللى جابته ومينفعشى ننقلب عليه»، يتابع حديثه باللهجة الصعيدية «والله العظيم أنا ما إخوان»، الأب لثلاثة أولاد، يعمل موظفاً فى مديرية الصحة ببنى سويف، لا يشغل بالاً بالأموال التى يُنفقها فى ذلك اليوم، مؤكداً أن الرئيس أولى بأمواله من عياله «أصلى لو منزلتش النهاردة.. ال100 جنيه دى مش هلاقيها بعد كده».. يفتخر الرجل الخمسينى، الذى تظهر على وجهه التجاعيد والتقسيمات بفضل لفحة شمس الجنوب، ب«كارنيه» يحمله فى «سيالته»: «أصلى أنا من الأشراف وبفتخر بنسبى للرسول.. والنبى مقالشى إن إحنا نقتل فى بعضينا ع الفاضى»، السلبيات فى الرئيس «مرسى» يراها «أبوأحمد» بوضوح «هو طبعاً فيه أخطاء.. لكن مش عاوزين ننسى أنه استلم البلد خرابة».. يتجول «ناجح شريف» مرتدياً «باندانة» خضراء ممهورة بثلاث كلمات «جماعة الإخوان المسلمين» يتوسطهم سيفان والآية الكريمة «وأعدوا»، يرى أن فى ذلك كله ما لا يشير إلى العنف أو استخدام الدم لتحرير مصر من «البلطجية» -على حد قوله- مضيفا: «انت عندك الإعلام بيشوه الحقايق.. وبيظهر كل حاجة وحشة فى البلد.. المفروض إنه يكون بنّاء»، مع قرب غروب الشمس، يرتكن الرجل الصعيدى على أحد الجدران، قابضاً بيديه على كوب شاى ساخن «يعدل دماغه»، إلا أن مطالبات من أعضاء الجماعة بالذهاب صوب ميدان «رابعة العدوية»: «يا جماعة الميدان فاضى.. إحنا مش جايين هنا نشرب شاى».. ليرشف رشفات قليلة تُلهب جوفه، ليتجه مسرعاً صوب الميدان. «اللى يحب مرسى يشرب شاى».. هتاف يصرخ به «أحمد ياسر» شاب فيومى جاء خصيصاً لمدينة نصر للعمل فى مغسلة ملابس، غير أن جمعة «الشرعية خط أحمر» حولت محل رزقه إلى «مقهى صغير»، فشاشة التليفزيون تعرض بثاً مباشراً لميدان رابعة العدوية، واقتسام الشاشة مع متظاهرى التحرير، الأمر الذى مكن المنتمين لجماعة الإخوان من متابعة المشهد عن كثب، فالحشود التى ملأت الميدان الشهير بحى مدينة نصر لم تمكن الغالبية من رؤية المنصة ففضلوا متابعتها فى «المغسلة المقهى».. منضدة مستطيلة مفروش أعلاها أكواب من البلاستيك الممتلئة بالشاى. الشاب الصغير مستمر فى الهتاف، بينما يقف صاحب المغسلة «أحمد فخرى» بشعره الطويل المربوط نهايته ب«توكة» يتابع شاشة صغيرة مرتبطة بكاميرا مراقبة حتى لا يتهرب أحد من الدفع وسط الزحام «أنا مش مؤيد لمرسى عشان طلع راجل منافق.. بس ده أكل عيش» معتبراً أن بيعه للشاى فى هذا اليوم لا يعبر عن أى دعم لمطالب المليونية، هتاف من الخارج يثير غضبه فقد طلب منه أحد المارة أن يغير القناة «هاتلنا الجزيرة» الأمر الذى اضطره للصراخ فيهم «مش هنتفرج على مزاجكم.. اللى يشرب شاى يخلص ويمشى». «البلد مينفعش تبقى فوضى» يقولها «محمد فريد» موضحاً السبب الرئيسى لمشاركته فى مليونية دعم الرئيس رغم حضوره مع دقات السابعة مساء، سائق التاكسى خمسينى العمر قادم لتوه من أمام قصر الاتحادية، لذا راح يشرح للجلوس عن المشهد هناك «نصبوا الخيم خلاص وعايزين الريس يرحل بالعافية» يسير «فريد» إلى مشاجرته مع أحد الشباب الذى حاول لصق «بوستر» لحركة تمرد على سيارته فدخل معه فى جدال كاد ينتهى بذهابهم لقسم الشرطة، شهيد الإخوان فى الفيوم -حسب قوله- قتل على يد بلطجية من حملة «تمرد»، مضيفاً «أنا ذهلت لما شفت حد من قادة الحملة فى التليفزيون بيقول وسطنا مندسين.. ده تحريض رسمى على العنف». على جنبات شارع الطيران راح بعض الحضور يؤدى صلاة المغرب على حشائش الحدائق التى تتوسط الطريق، كان «محمد نصر» واحداً منهم، السير طيلة النهار داخل ميدان رابعة العدوية وسط الزحام الشديد أجبره على ثنى حذائه للنوم عليه، الشاب الذى دخل عامه الثلاثين قبل شهور لا ينتمى لجماعة الإخوان، غير أنه مؤيد لشرعية الرئيس -حسب وصفه- مشيراً إلى أن هناك بعض الأمور السلبية التى يقوم بفعلها الرئيس على رأسها التعامل بلين مع الفاسدين، لم تنج المعارضة من انتقاداته فهناك العديد من «الكوارث» التى ترتكبها قادتها؛ فرفع لافتات لمبارك فى بعض الميادين العامة فى الآونة الأخيرة يؤكد -حسب وجهة نظره- أن «الفلول» هم من يديرون المعركة ضد الدكتور مرسى. «القضاة أشراف لكن فيهم مجموعة فسدة» يضيف بها «نصر» مؤكداً أن الجموع التى تقف ضد الرئيس «مغيبة» أو «مضللة»، الشاب الذى يملك مصنعاً للملابس الجاهزة يعتبر ترك رزقه ليوم يهون عليه «خراب عام» فى حال تمت إقالة الرئيس. بوجوه صارمة وأجساد مفتولة كان شباب الجماعة يحتلون حدود مداخل الميدان، بعدما تمت عملية «تطهير» للميدان بشكل جزئى؛ فتم إخراج معظم الشباب فيما بقيت الأسر والسيدات كما هم ليتم تمحيص العابرين إلى الداخل مع حلول الظلام، نحو 50 شخصاً يقفون على كل ناحية يمسك كل منهم سيخاً حديدياً أو شومة ومعظمهم يقبض بيديه على ماسورة خضراء اللون «بى آر» تستخدم فى السباكة، ويرتدى كل منهم واقياً للصدر يستخدم فى الدفاع عن النفس، علاوة على ارتدائهم «خوذة» لحماية الرأس، المجموعات المنتشرة فى جميع المداخل المؤدية للميدان تمنع المارة وساكنى المنطقة من الدخول إلا بالتفتيش الذاتى وإبراز الهوية الأمر الذى أدى إلى حدوث صدامات مع بعض السكان، غير أن الأمر امتد لمنع الصحفيين من الدخول بالقوة «كل الإعلاميين فاسدين» كان المبرر الذى قاله أحدهم بلحية خفيفة ولهجة تنتمى إلى الأرياف، وعند محاولة النقاش تم الاعتداء على محرر «الوطن» بالضرب فى الصدر والوعيد ب«هنوقع لكم سنانكم وملكوش دية.. يلا عشان محدش يضربكوا»، علاوة على استخدام ألفاظ نابية وسباب يسىء إلى كل معانى الإنسانية، فيما كان ردهم على عبارة «هى دى السماحة اللى بتعلموها للناس وده دين ربنا» بالتهكم والمغالاة فى الرد «هو الصحفيين يعرفوا ربنا»، الأمر الذى اضطر محررى «الوطن» للتوجه إلى قسم أول مدينة نصر بتحرير محضر ضد كل من محمد بديع المرشد العام لجماعة الإخوان ومحمد سعد الكتاتنى رئيس حزب الحرية والعدالة بتحريضهم ل«ميليشيات» بتكدير السلم العام والاعتداء على صحفيين أثناء ممارسة عملهم. لم يغب الفن عن جمعة «الشرعية خط أحمر» فداخل دائرة كبيرة بإحدى الحدائق المقابلة لمسجد رابعة جلس نحو 100 شخص يشاهدون فقرة تمثيلية يؤديها شابان من الجماعة، تتلخص فكرتها فى الإعلام الذى يصور للناس بأن موعد القيامة يحين مع 30 يونيو، فيما يسخر أحدهم بأنه يوم عادى سيمر دون حدوث شىء، قبل أن يسخر من عدد غير قليل من الإعلاميين على رأسهم «لميس الحديدى»، وسط ضحكات الجموع وتأكيدهم أن المظاهرات التى دعت لها حركة تمرد مجرد «ترهات» لن تؤثر على الرئيس ونظامه. الألعاب النارية تضوى فى السماء تتبعها تكبيرات، فيما يحل الظلام أرجاء الجنبات اللهم إلا فى أعمدة الإنارة فى اتجاه شارع عباس العقاد، بينما يكتفى شارع الطيران بإضاءة اللوحات الإعلانية الضخمة، «الحرب على الإسلام» عبارة تسمعها كل حين بمجرد مرورك بجوار جمع، متخذين منه ذريعة لكيل السباب لمتظاهرى التحرير حينا أو السخرية على القضاة بتهكم «قال قضاء شامخ قال».. كل ربع الساعة يعتلى المنصة الرئيسية قيادى إخوانى، كان أبرزهم الدكتور عبدالرحمن البر مفتى الجماعة يناشد إخوانه بأسئلة من نوعية «من الفاسدين.. نحن أم هم» كانت الهتافات تعلو بهيستريا «هم» قبل أن يدخل فى الدعاء «اللهم اجعل كيدهم فى نحورهم»، فيما كانت دقات الثامنة إيذاناً بإلقاء الدكتور محمد البلتاجى كلمته متخذاً من الرئيس مرسى أسوة فى الخطاب؛ فراح يعدد بالأسماء من اعتبرهم محرضين على يوم 30 يونيو ذاكراً بينهم أعضاء قدامى للحزب الوطنى المنحل، غير أن أذان صلاة العشاء كان السبب فى انقطاع سيل الاتهامات ضد من وصفهم ب«المعارضة المغرضة».