فى لقاء مع مثقف سورى معارض عاشق لمصر قبل شهور، أبدى إعجابه «بالاستثناء المصرى السلمى» مقارنة بثورات الربيع العربى الأخرى التى سالت فيها الدماء بغزارة. استبعد صديقنا الحالة التونسية التى لا يمكن مقارنة تاريخ جيشها بالجيوش العربية الأخرى التى تملك رصيداً من الدفاع عن الأوطان فى حروب حقيقية تبرر دورها السياسى -المعلن أو الخفى- كحال الجيش المصرى أو السورى أو العراقى. على العكس تماماً من هذا الفهم لا يشعر المصريون بذلك «الجميل» الذى أسداه لهم الجيش المصرى حين رفض ضرب الشعب الثائر وضغط من أجل الرحيل «السياسى» لمبارك سلمياً، إذ يعتبرون أن هذا هو السلوك الطبيعى المتوقع من جيشهم الوطنى. الفارق الجوهرى هو أن العلاقة بين الجيش والشعب فى مصر ظلت من قبيل العلاقة العضوية، فالتجنيد إجبارى للجميع من كل الفئات والمناطق، وكذلك ضباط الجيش فى كافة المستويات دون تمييز، على العكس من الجيش السورى الذى تسيطر على قياداته العليا والوسيطة الطائفة العلوية ويمثل أداة القمع الرئيسية للنظام إلى جانب أجهزة الأمن المختلفة. ولكن العلاقة بين المجلس العسكرى وبين الشباب الثورى والنخبة والقوى السياسية والدينية فى مصر شهدت لحظات توتر خلال المرحلة الانتقالية، تراوحت بين التفاهم والصدام السياسى، واضطر المجلس لاستخدام سياسة «العنف المحدود قصير المدى» من آن لآخر، ويبدو أن العلاقة قد اقتربت من طريق مسدود خلال الآونة الأخيرة، ما ينذر باحتمالات انزلاق وشيك وخطير يطيح بذلك «الاستثناء المصرى» الذى طالما تباهينا به. يتساءل الناس فى البيوت وعلى المقاهى: لماذا فشلت النخبة الرسمية وغير الرسمية؛ العسكرية والدينية والمدنية، فى التوصل إلى نوع من التنازلات المتبادلة التى يمكن أن تعبر بالبلاد إلى مرحلة أرقى من التطور السياسى تُمارَس فيها الخلافات والضغوط فى الإطار الديمقراطى دون استخدام العنف أو التلويح به؟ لماذا تفتقر النخبة المصرية بكل أصنافها للقدرة على التصالح ضمن شروط العدالة الانتقالية؟ لماذا يصر كل طرف على الاستحواذ وحده على قلب النظام السياسى؟ لماذا تفتقر مصر لقيادات ثورية العقل سلمية الروح كمانديلا ومارتن لوثر كينج وغاندى؟ لماذا يضن كل طرف بالتطمينات التى يحتاجها الطرف الآخر كى يقدم بدوره على تقديم التنازلات المطلوبة من جانبه؟ يبدو المجلس العسكرى منزعجاً بشدة إزاء مستقبله حال سيطرة الإخوان المسلمين على مقاليد الأمور فى البلاد. هل نلتمس له الأعذار على ضوء انسياق قيادات إخوانية ووطنية مدنية لتلك الشعارات الحماسية التى يطلقها شباب الثوار والإخوان فى الميادين ضد «العسكر»، ونكوص هده القيادات عن تقديم تصور سياسى متكامل وقابل للتنفيذ فيما يتعلق بالدور السياسى والاقتصادى للمؤسسة العسكرية وعودتها -ولو بشكل متدرج- لدورها الأصلى فى حماية حدود الوطن بشكل مهنى محترف؟ هل تتحمل هذه القيادات جزءاً من المسئولية عن «الانقلاب الناعم» الملوح باستخدام القوة الذى أقدم عليه المجلس مؤخراً؟ الثورة السلمية لا تعنى فقط رفع شعار «السلمية» لأسباب براجماتية تتعلق بعدم قدرة الثوار على كسر الأمن والعسكر، ثم المبادرة إلى استخدامه بمجرد حدوث تحول فى ميزان القوى. يُبقى هذا الفهم على جوهر العنف، فقط يحوله من طرف سياسى لآخر. يقول غاندى إن جوهر الثورة السلمية هو رفض مبدأ العنف فى حد ذاته حتى لو كان بإمكانك استخدامه، وإحداث هزيمة أخلاقية للطرف الطاغى حتى يضطر للتوقف عن استخدام العنف من تلقاء نفسه. هل ثمة فرصة لإعادة صياغة مفهوم الثورة المصرية وتجذير جوهرها السلمى ثقافياً وفلسفياً، ليصبح جزءاً من السلوك الديمقراطى لكل أطراف الصراع السياسى الراهن، أم أن الثوار سينساقون لمن يريد فرض طريقة اللعب العنيف عليهم. المباراة السياسية الراهنة ليست مباراة للمغالبة وفرض الإرادات بقوة العنف، بل هى مباراة لفرض احترام القانون وفرض السلم بالإصرار على رفض العنف أياً كان الطرف الذى يستخدمه.