شارع قديم وطويل تزينه مبان عريقة، يبدأ من منطقة فم الخليج، وينتهى فى ميدان التحرير، موقعه الجغرافى المميز جعله شاهداً على أحداث غيرت مجرى التاريخ المصرى الحديث، إنه شارع قصر العينى الذى يفصل بين حى جاردن سيتى الهادئ وحى المنيرة الصاخب، بين القصور والفيلات الفخمة وبين الوزارات المزدحمة. الجانب الأيسر من الشارع المحازى لجاردن سيتى يفيض بالمحلات التجارية والمطاعم، استمد الشارع اسمه من «العينى باشا» صاحب القصر الذى أقيم فيه أقدم مدرسة طبية فى مصر، التى أنشئت فى عهد محمد على باشا أوائل القرن التاسع عشر، ومع بدايات القرن العشرين عند افتتاح جامعة فؤاد الأول التى تحولت فيما بعد لجامعة القاهرة، تم ضم المدارس العليا إليها تحت اسم كليات، فكانت كلية «طب قصر العينى». قبل سنوات كان الشارع يتميز بالهدوء، فلا تسمع به إلا همساً، كان قبلة للأجانب المقيمين والسائحين، تميز برصيفه المنبسط والمعبد على غير عادة شوارع القاهرة الأخرى، كانت حركة السيارات تسير فى الاتجاهين لكنها الآن تسير فى اتجاه ميدان التحرير فقط ولا تصل إليه مباشرة، بل تنحرف إلى اليسار صوب كورنيش النيل بسبب إغلاق الشارع بحاجزين من الخرسانة تمت إقامتهما إثر اشتباكات دامية شهدها الشارع عقب الثورة، تحولت المنطقة بين الجدارين إلى جراج كبير تصطف فيه السيارات التى تصل إليه من الشوارع الجانبية وتبقى فيه آمنة مطمئنة، يضيق الأهالى والموظفون ذرعاً بذلك، إغلاق الشارع يعيق حركتهم اليومية، يستعطفون صاحب سوبر ماركت بالجهة اليمنى من الشارع للسماح لهم بالمرور من داخل المحل إلى الناحية الأخرى، ومن أجل ذلك تتوقف الطوابير فى الجانبين انتظاراً لدورهم، لا يمل صاحب المحل من ذلك فقد اعتاد عليه وألفه. فى زاوية صغيرة من الشارع يجلس حسين أحمد (49 سنة) موظف بسفارة آسيوية على كرسى متهالك بجوار بائع ساعات فى مواجهة مبنى مؤسسة روز اليوسف يتصفح الجرائد، يقول إنه يعمل بالمنطقة منذ 23 عاماً، يبدى حسين انزعاجاً كبيراً لما آلت إليه أحوال الحى الراقى بعد الثورة، ويتذكر أيام عصره الذهبى قائلاً «قبل الثورة اللى كان بيضرب كلاكس جوا الحى كان بيتقبض عليه، إنما دلوقت الحى بقى زى العتبة». يتابع الرجل حديثه وعلامات الغضب تكسو ملامح وجهه، قائلاً إنه كان من المستحيل دخول عربات الكارو إلى المنطقة لكنها الآن موجودة باستمرار، وتسير بشارع قصر العينى على مهل وينادى أصحابها بالميكروفونات على «الروبابيكيا»، بل يمرون أمام السفارات الكبيرة دون مبالاة. يشكو الرجل أيضاً من انتشار القمامة بأنحاء الشارع المتفرقة، ويكمل قائلاً إن سكان الحى الأثرياء هجروه إلى غير رجعة ليقطنوا بمدينة القاهرةالجديدة شرق العاصمة يبحثون فيها عن الهدوء والرقى المفقود بعد أن اخترقت المظاهرات جاردن سيتى، لذلك غيرت بعض المحلات بالشارع أنشطتها. يتنهد الرجل ويصمت قليلاً ثم يواصل: «عانينا طويلاً من مواكب الوزراء فى العهد البائد حيث كانت تتسبب فى إغلاق الشارع جزئياً لمدة ساعات بينما كان يتم إغلاقه نهائياً من الجانبين وقت خطابات الرئيس المخلوع مبارك حينها كنا نسير على الأقدام لمسافات طويلة حتى نبلغ محطة المترو بميدان التحرير». يفتقد حسين على ما يبدو الشارع أيام ما قبل الثورة، فيقول «قبل الثورة كان قصر العينى غاية فى الجمال والرقى بل كان مقدساً ويتم تنظيفه أربع مرات يومياً بسيارة تجميل القاهرة، لكن نظافته الآن مقتصرة على الأفراد»، يردف حسين «شهد شارع قصر العينى العديد من الوقفات الاحتجاجية والاعتصامات أيام حسنى مبارك، لكنها لم تتسبب فى إغلاق الشارع». محمد فتحى رجل خمسينى رث الثياب، ملامح الفقر تظهر جلية على ملامحه، يعمل بمحل عصير قصب فى شارع قصر العينى بخفة ونشاط، يجيب على الزبائن بجملة بدا إنه يحفظها عن ظهر قلب «just only one minute»، يقول إن معناها «دقيقة واحدة»، مشيراً إلى أنه تعلمها من أستاذ جامعى تناول عنده عصير القصب ذات مرة «مش حافظ حاجة غيرها» هكذا يقول. محلات الزهور بالشارع ناحية جاردن سيتى خاوية من الزبائن تبحث عمن يقدر الورود والزهور، وتحن إلى هوانم جاردن سيتى والطبقة الراقية التى كانت تحرص على شراء الورود بمناسبة وبدون مناسبة، أما وقد هجروا المكان إلى أحياء القاهرةالجديدة الراقية فإن بيع الورود بالمكان لم يعد بالأمر المجدى، حسبما يقول هانى عمرو بائع الورد الذى يبلغ من العمر 26 عاماً، يحضر إلى المحل كل صباح يقف مع والده بالمحل منذ نعومة أظافره فعمر المحل يرجع إلى عام 1970. يقول هانى «أحوال الحى والشارع تراجعت فى منتصف تسعينات القرن الماضى مع هجرة سكان الحى المرموقين من هنا ليحل محلهم شركات ومكاتب تجارية. يضيف هانى «معظم محلات الشارع أغلقت أبوابها أثناء اشتباكات مجلس الوزراء خوفاً من تحطيمها»، يصمت قليلاً قبل أن يعاود «الأحداث وقّفت حالنا»، يشير بكلماته إلى وزراء ومسئولين يتقلدون مناصب فى الدولة ويدخلون مكاتبهم فى شارع قصر العينى دون أن يعنى أحد بإرسال الورود إليهم لتهنئتهم، عكس ما كان يحدث فى الماضى، إذ كان يصاحب حركة التعيينات والترقيات رواج كبير فى حركة البيع والشراء. الآن ذهب كل شىء ولم يعد الورد مطلوباً بعد أن اعتاد الناس على استقبال المسئولين الجدد بالمظاهرات.