مؤسفة ومحزنة بلا حدود الطريقة التى تذكرت بها مصر مرور عشرين عاماً على استشهاد جمال حمدان. كانت المناسبة يوم الأربعاء الماضى، وخلت صحفنا -وما أكثرها!- وإعلامنا المترامى الأطراف من أى إشارة للمناسبة. قلت لنفسى: ما هكذا يعامل جمال حمدان من مصر التى أحبها وعشقها وقضى عمره متبتلاً فى محرابها. خصوصاً أن أيامنا هذه بكل ما تطرحه علينا من أسئلة الفزع والخوف تفرض علينا تذكر جمال حمدان وتأمل مشروعه. جمال حمدان أيها السادة من أوائل -إن لم يكن الأول- الذى تنبه إلى حقيقة الدولة المصرية، الدولة النهرية الممتدة، الدولة التى اخترعت الأبدية. وجمال حمدان هو المصرى الوحيد الذى رد على المؤرخ اليونانى هيرودوت عندما قال إن «مصر هبة النيل»، فرد عليه بعبارته العظيمة أن «مصر هبة المصريين». اليوم ونحن نشاهد محاولات هدم الدولة المصرية واغتيال شرطتها وقضاتها وجيشها واقتصادها ومجتمعها وشبابها ومستقبلها، وجعل مستقبل المصريين وراءهم فى هذه الظروف القاسية والصعبة التى وضعنا فيها حكم الإخوان المسلمين، فإن أول شىء يمكن فعله لذكرى جمال حمدان تأمل درسه وتذكر جهده والالتفات إلى ما قدمه؛ ذلك أننا أحوج ما نكون لكل حرف كتبه جمال حمدان فى حياته. لكن مثلما قال نجيب محفوظ فى مفتتح رائعته «أولاد حارتنا»: «ولكن آفة حارتنا النسيان»، فقد جعلنا جمال حمدان نردد: «ولكن عبقرية مصر تكمن فى النسيان»، مع أن هذا النسيان خطر يهدد الذاكرة الوطنية المطلوب نسفها ومحوها واعتبارها كأنها لم تكن، لأن الجماعة تعتبر أن الأممية الإسلامية أهم من الإحساس بالوطن، فكلمة الوطن لا وجود لها فى قواميسهم جميعها. كتبت الثلاثاء الماضى أطالب بفتح التحقيق فى ملابسات استشهاد جمال حمدان، لأن لدىَّ يقيناً أن جمال حمدان مات مقتولاً، وأن من قتله هو العدو الصهيونى، والأدلة كثيرة جداً. وعندما كتبت كنت أدرك أنه لن يهتم أحد بما كتبته، لكنى وجدت خلال الأيام الأخيرة واقعة يمكن أن نستند إليها فى إعادة التحقيق فى اغتيال جمال حمدان. شيلى قررت مؤخراً فتح التحقيق فى اغتيال بابلو نيرودا المقتول فى الثالث والعشرين من سبتمبر سنة 1973، أى إنه مر على قتله أكثر من أربعين عاماً، فى حين أن جمال حمدان مر على قتله عشرون عاماً فقط. قُتِل نيرودا بعد 12 يوماً من الانقلاب العسكرى الدموى الذى قاده «بينو شيه» على سلفادور ألّيندى المنتخب، وقيل إن وفاته بسبب سرطان البروستاتا. مساعد نيرودا قال إنه تم حقنه بحقنة سامة، وإن نيرودا مات مسموماً. فى شيلى سيستخرجون جثمان نيرودا للتحقيق فى وفاته، رغم صعوبة ذلك. فهل نقتدى بهم، ونفتح تحقيقاً فى وفاة جمال حمدان، ونعتبر هذا التحقيق على سبيل الاعتذار لجمال حمدان عن تجاهلنا لذكرى رحيله العشرين؟