انتقل إلى رحمة الله تعالى أستاذنا الدكتور محمد فريد عبدالخالق يوم الجمعة الماضى، ومن قبل ذلك بشهرين انتقل أستاذنا الجليل المهندس حلمى عبدالمجيد رحم الله الجميع، كان الرجلان من كرام الدعاة ومن الرعيل الأول، وكانا من النماذج النادرة فى الدعوة قولاً وعملاً، حتى إن الأستاذ حلمى عبدالمجيد قاد شركة «المقاولون العرب»، إلى جانب مؤسسها عثمان أحمد عثمان فى أحرج اللحظات، وأدار بحنكة بالغة وثقة تامة، تلك الشركة الجبّارة ومشاريعها. تخطى بعمله وأمانته وصدقه وإخلاصه النظرية إلى التطبيق، والمحاضرات إلى الواقع العملى، فكان نموذجاً فى الأمانة والدقة والإخلاص والتواصل مع الناس، كل الناس. أما أستاذنا الدكتور محمد فريد عبدالخالق، فقد كان من أكثر المصريين، بل العرب، ثقافةً وعلماً وأدباً وحضارةً. تعرّف على الإمام «البنا» فى مناسبة دعوية مع صهره اللواء صلاح شادى -رحم الله الجميع- وذلك فى أوائل الأربعينات. دعاهما إلى هذا اللقاء الأخ الكريم صالح أبورقيق، وكان قد سبقهما إلى الالتحاق بركب الدعوة. كان أستاذنا فريد عبدالخالق من أقرب الناس إلى الإمام البنا، حيث رافقه طويلاً، ما يقرب من عشر سنوات، سكرتيراً له ومسئولاً عن قسم الطلاب، وعضواً فاعلاً فى مكتب الإرشاد. صحب أستاذنا، الإمام «البنا» فى رحلات عديدة، خصوصاً الرحلات، إلى بلاد الصعيد صيفاً، وقد روى لى كثيراً عن صفات الإمام «البنا» وأخلاقه، وقد تأثر به كثيراً فازداد أدباً وعلماً وإرادة وأملاً فى المستقبل. كانا فى رحلة إلى الصعيد وفور أن جلسا فى مقاعدهما فى القطار بدأ الإمام «البنا» يُملى عليه شيئاً من البرامج المستقبلية المطلوبة فى الدعوة، ومناقشة كيفية التنفيذ بعد العرض على مكتب الإرشاد. قال لى أستاذنا: عندما بلغ بى التعب مداه، وكان الطريق طويلاً: عرضت على الإمام «البنا» أن نأتى ببعض الطعام والشاى. وبعد الانتهاء من الطعام أخرج أستاذنا فريد عبدالخالق علبة السجائر ليدخن واحدة. قال لى: قبل تلك الرحلة لم يقل لى الإمام «البنا» تصريحاً أو تلميحاً، أى شىء عن التدخين، ولكنه هذه المرة أشار الإمام «البنا»، إلى أنه قد تأتى أوقات صعبة على الدعاة يحال فيها بينهم وبين ما يشتهون. أضاف أستاذنا قائلاً: نزلت كلمات الإمام «البنا» على قلبى برداً وسلاماً، فكرهت التدخين على التو، وألقيت بعلبة السجائر من النافذة، وشعرت بأن الإمام «البنا» كان يُخلص فى الدعاء لأبنائه وتلامذته وإخوانه، أن يخلّصهم الله تعالى من كل مكروه، فضلاً عن كل حرام. فى سنة 1985، دعوت أستاذنا فريد عبدالخالق إلى المشاركة فى بحث عن دعوة الإخوان المسلمين، فى ندوة «اتجاهات الفكر الإسلامى المعاصر» التى أقيمت فى البحرين برعاية مكتب التربية العربى لدول الخليج. دعوت إلى تلك الندوة أكثر من سبعين شخصية بارزة من المفكرين والدعاة والباحثين يمثلون الاتجاهات الإسلامية السائدة، بما فى ذلك الجماعة الإسلامية فى باكستان، وحزب التحرير، والتبليغ، والدعوة السلفية. وكان منهج المناقشة أن يكون المناقشون الرئيسيون لأبحاث الاتجاهات الإسلامية من غير أصحاب تلك التوجّهات، أى من العالمانيين والليبراليين فضلاً عن القوميين. كانت ردود أستاذنا فريد عبدالخالق على ما أثاره المناقش مقنعة، فضلاً عن الأدب الشديد فى الحوار والصدق والأمانة فى التعبير وسرد الحقائق، مما جذب إليه الانتباه، فاختاره الجميع ليتحدث باسم المؤتمر فى اللقاءات الرسمية. طلبت من أستاذنا أن ينشر بحثه فى كتيب يستفيد منه الدعاة الجدد خصوصاً، بعيداً عن الصراع الذى صاحب الدعوة فى السنوات الأخيرة من حياة الإمام «البنا». كان أستاذنا «فريد» فريداً فى أمانته، حيث ذكر ما قلته فى مقدمة الكتاب، علماً بأننى أعرف بعض الدعاة ممن نقلوا فصولاً بأكملها من كتاب غيرهم، دون إشارة إلى المصدر. وهنا يكمن الفرق بين الدعاة والمدّعين، والفقهاء والمتفيهقين. رحم الله تعالى أستاذنا كان نموذجاً تفتقر الدعوة اليوم إلى أمثاله، والله الموفق.