بين خطاب دينى مأسوف عليه توحش وتوغل حتى أصبح أكبر من الدين نفسه، وقرض صندوق تحول من عملية حسابية ينبغى توخى الحذر فيها وتحسس طريق المفاوضات عليه، إلى خلاف أيديولوجى، وعملة مصرية تعانى الأمرين، تارة من غدر الزمان وأخرى من سياسة الباذنجان، يدور المصريون فى دوائر مفرغة، لكن فراغها بات مثيراً للقلق ومدعاة للخوف. وبعيداً عن الدوائر المغلقة التى يدور فيها الإخوان والسلفيون، حيث جهود الصيد فى المياه العكرة أملاً فى تصدر المشهد السياسى مجدداً، فقد آن أوان استيقاظنا. وقبل أيام استمعت لمحلل اقتصادى كان يتحدث عن قرض صندوق النقد الدولى، وقال ضمن ما قال إن «الشعب اتدلع لوقت طويل»، وأنه قد آن أوان انتهاء الدلع. ورغم أنه كان يتحدث عن الاقتصاد تحديداً، حيث ضرورة إصلاح منظومة الدعم إصلاحاً جذرياً، بالإضافة إلى النظر فى أسعار الصرف نظرة واقعية، إلا أن حديثه عن «دلع الشعب» بدا منطقياً جداً، ولكن على نطاق أوسع. صحيح أن الشعب عانى- وما زال- بسبب تواتر منظومات فاسدة حتى تحول الفساد إلى أسلوب حياة، وصحيح أن الشعب -أو على الأقل طبقتيه الوسطى والدنيا بفئاتهما المتعددة- قد تعرض لظلم فاحش، تارة عبر تجريف الأدمغة وأخرى من خلال تسكين الأوجاع والآلام الاجتماعية والاقتصادية، وثالثة تحت وطأة ظنون وأوهام بأن الحال سيستمر على ما هو عليه لعقود وقرون، إلا أن الخروج من الهوة السحيقة يحتاج إلى تغيير وتعديل. هذا التعديل لن يحدث فى الأروقة الحكومية فقط، أو فى طرقات الرئاسة وحدها، ولكننا جميعاً فى حاجة إلى صحوة جماعية. وأعلم تماماً أن الحديث عن الصحوات الشعبية ما زال مرتبطاً فى أذهان قوى ثورية بالثورات والاحتجاجات والوقوف على سلالم النقابات، لكن ليست هذه الصحوة المقصودة. وأعلم أيضاً أن قوى سياسية (إن وجدت) ومعها أفراد يعملون بالسياسة يعتبرون الصحوة الحقيقية هى تمكنهم من مقاليد الحكم، لكن ليست هذه أيضاً الصحوة المقصودة. كما أعلم أن قوى رسمية يخيل لها أن الصحوة المعنية تعنى أن يمتثل الشعب لقراراتها دون مساءلة، ويسبح الجميع بحمدها دون مراجعة، وهذه ليست الصحوة المشار إليها. أسئلة كثيرة تتبادر إلى الذهن فى إطار التفكير فى صحوة صحية قادرة على مد يد الغوث لمصر. حين يشعر مسلمون بأنهم مهددون لأن أحدهم يبنى كنيسة أو يصلى بطريقة غير تلك التى يصلون بها، فيصبح هذا «التهديد» محور حياتهم ويدفعهم إلى مهاجمة «مصدر التهديد»، فهذا يعنى أنهم فى أزمة عقائدية طاحنة. فاعتقادهم بأن الآخر مثار تهديد لهم يعنى خواء كاملاً. وحين يرفض باعة جوالون يفترشون الأرصفة ببضائع رخيصة رديئة ويرفضون فرص تدريب وتوظيف فى مصنع، فهذا يعنى أنهم فى أزمة أولويات طاحنة. فمكسب اليوم السريع لن يضمن لهم مستقبلاً حيث لا حرفة أو مهنة يتقنون قواعدها غير بلطجة الأرصفة. وحين تبحث عن قائمة الصادرات المصرية فتكتشف أننا لا نتقن من المنتجات ما يمكن تصديره إلا فى أضيق الحدود، حيث بترول ومشتقاته، وشوية منسوجات على أسمدة ولبن وبيض وعسل، فإن هذا يعنى أننا سنظل فى غيبوبة اقتصادية مقيتة. ويكفى أننا نصدر ما يقدر ب22 مليار دولار من السلع، ونستورد ب61 مليار دولار، محققين عجزاً فى الميزان التجارى يبلغ 39 مليار دولار (حسب بيانات البنك المركزى المصرى عن عام 2014- 2015). وحين تجد أن أغلب من حولك يفضلون التعامل فى أعمال تصنيع المكسب من لا شىء، حيث سماسرة العقارات ومشترى الأجهزة وإعادة بيعها بالتقسيط وغيرها من الأعمال التى لا تحتاج سوى مهارة الثلاث ورقات، فإن هذا يعنى أن الطرق السهلة لها الغلبة، وجميعها طرق لا تتطلب مهارة أو حرفة أو صناعة. وحين تجد أن الإعلام، لا سيما المرئى، يصر ويصمم على الإبقاء على عنصرى السخونة والتوليع كأولوية فى تشكيل الرأى العام، حيث الإعلانات مضمونة والشهرة سريعة، فإن هذا يعنى أن ضبط الشارع وإصلاح الأدمغة المعوجة وتقويم العقليات المجرفة أمور غير واردة. وحين تتصدر عبارة «كل سنة وأنت طيب» تعاملات أفراد الأمن فى البنوك وكناسى الشارع فى كل المدن الكبرى وحتى عمال النوادى وسعاة المصالح والهيئات، فإن الحلم -مجرد الحلم- بأن يعود للمصرى قدر من كرامته ويستعيد اعتزازه بنفسه، رغم فقره، أمر بعيد المنال. وحين تصر الأغلبية على ضرب عرض الحائط بقوانين المرور لدرجة تتحول فيها الحوادث التى يقتل ويصاب فيها المئات إلى أخبار يومية يتعامل معها الجميع باعتبارها «قضاء وقدراً»، وذلك فى إصرار يبدو أنه متعمد من قبل مسئولى المرور على تجاهل تطبيق القانون، فإن هذا يعنى أننا ماضون قدماً فى مزيد من الانتحار على الطريق. وحين يمضى التجار قدماً فى طريق النهب والسلب والسرقة المعروفة سابقاً ب«رفع الأسعار» لتحقيق مكاسب سريعة على حساب الطبقة المتوسطة وما تحتها من طبقات، فإن هذا يعنى أنهم نصابون ومحتالون ولا يعنيهم سوى مصالحهم الآنية الشخصية. وحين يستمر المتدينون بالفطرة فى البناء سراً كلما سنحت الفرصة على الأراضى الزراعية، فإن هذا يعنى أنهم سارقون لمستقبل هذا البلد وناهبون لخيراته المتقلصة. وحين يستمر مسئولو التعليم الفنى فى منصابهم على الرغم من فشل ساحق وإخفاق رهيب فى عدل حال التعليم الفنى المائل، فإن هذا يعنى قدراً هائلاً من التبلد والتحجر. الصحوة مطلوبة، والاستيقاظ حان وقته، لأن الغيبوبة تلوح فى الأفق.